إنها علاقة عميقة وقلقة فى ذات الوقت، تضرب بجذورها إلى ما قبل التاريخ المكتوب، هى علاقة فيها كل مظاهر وسائل التواصل بين الأمم والشعوب، فيها الحب المتحفظ، والغيرة البريئة، والتنافس المكتوم، فالعرب يحبون مصر أرضًا وشعبًا ولكن مشاعرهم تتأرجح بين وقت وآخر وخلال فترة زمنية محددة، فالتاريخ العربى المصرى حافل بكل أنواع الاشتباك الإنسانى الذى لا حدود له، ومنذ وفد الإسلام على مصر وقد حمل العروبة على كاهله إلى أن بدأت الصلوات فى الكنائس القبطية تتم باللغة العربية فى بداية العصر الفاطمى وهو ما اعتبرناه الميلاد الحقيقى الذى نرجع إليه عند تحديد الهوية العربية للدولة المصرية، ولاشك أن العامل الثقافى هو المتغير المستقل فى العلاقات المصرية العربية فعلى أساسه تشكل النسيج القومى للمنطقة بأسرها، ولقد أثبتت الدراسات الحديثة أن القومية مسألة ثقافية بالدرجة الأولي، فالدين المشترك والجوار الجغرافى والاندماج التاريخى لا تنهض كلها بديلًا لوحدة اللسان القائم على ركيزة ثقافية ثابتة، ولكى نُبسط القضية من جوانبها المختلفة فإننا نطرح المحاور التالية:
أولًا: لا يختلف اثنان على أن مصر تمر حاليًا بظروف صعبة ولكن ذلك لا ينزع عنها قيمتها المحورية ولا دورها المركزي، فحضارتها القديمة ملهمة، وقواتها المسلحة هى واحدة من العشر الأولى فى العالم، فضلًا عن دوريها التنويرى والثقافى المستمدين من قوتها الناعمة، لذلك فإن مصر عصية على السقوط، ولقد واجهت عبر تاريخها الطويل نكبات ونكسات ومشكلات وأزمات ولكنها عبرت ذلك كله لأنها الكنانة (المحروسة) دائمًا وهى كما يقول بعض العرب (عمود الخيمة)، ولابد أن أعترف هنا أن معظم الشعوب العربية تنظر إلى مصر بحب وإكبار وترى فيها الشقيقة الكبرى برغم كل ما عانت وعانى معها أشقاؤها، وقد يتطرف بعض العرب فيحملون (العصر الناصري) ما لا يجب، ويتهمون (العصر الساداتي) بما لا يجوز، ويقفون أمام ثورة يناير 2011 بانبهار مشوب بالأسف للتطورات التى آلت إليها.
ثانيًا: إن العسكرية المصرية ظلت عبر التاريخ منذ واجه (أحمس) جحافل (الهكسوس) ومصر تقف فى صمود دفاعًا عن المنطقة سواءً فى (حطين) أو (عين جالوت) أو (حرب 1973) فلديها خير أجناد الأرض كما قال الرسول الكريم عندما أوصى بها ودعا لها حتى أصبحت مصر هى الحصن والملاذ، هى الدرع والسيف خصوصًا وأن التحديات المحيطة بالوطن العربى كثيرة وشرسة، إن مصر حاربت خمس حروب فى مواجهة إسرائيل هى حروب 1948 ، 1956، 1967، حرب الاستنزاف ثم العبور العظيم عام 1973وانتصار أكتوبر المجيد.
ثالثًا: إن مصر ــــ كما يراها العرب واختلفوا حولها ــــ هى أيقونة عربية إفريقية إسلامية بحر متوسطية شرق أوسطية، وهذه التعددية فى أعمدة الهوية المصرية تجعلها ذات مذاق خاص، لها دور قائد فى الحرب ورائد فى السلام، وقد يقول قائل: إن كثيرًا من العرب يفضلون مصر الأرض والشعب وطيبة الناس والتسامح الشامل الذى يحتويهم واحترام المصرى لغير المصرى ولكن هذا كله لا يكفي، فلمصر سحر خاص لدى بعض العرب لأنها بلد لا يمكن أن تتخذ منه موقفًا وسطًا، فمصر بزحامها يمكن أن تعشقها، ويمكن فى الوقت ذاته أن تبتعد عنها!
رابعًا: يدخل العرب إلى مصر كسائحين تشدهم مصر أرضًا وشعبًا ومعيشة وقد لا يتحمسون للمزارات الفرعونية ولكنهم يقبلون على مساجدها وقلاعها ومقاصفها ونواديها، وفى مصر تجد كل ما تريد .. جدٌ ولهو، تدين وتسلية، إنها مصر التى أحبها العرب عبر التاريخ ولم يبتعدوا عنها برغم سموم الدعايات المضادة ومحاولات الإساءة إليها وتحطيم صورتها المشرقة أمام أشقائها ليشعروا تجاهها بالكراهية أو التحفظ أو الغيرة ولكنها تظل فى النهاية مصر مركز الاستقطاب العربى.
خامسًا: إن مصر تمثل نموذج حضارة النهر مثلما هى العراق وغيرهما من حضارات المدن القديمة التى استقبلت الإسلام بحفاوة وهو قادم من الجزيرة العربية ببداوتها ونقائها فاستفادت منه وأضافت إليه، إنها مصر الأزهر الشريف، ومصر الكنيسة القبطية ، ومصر الجامعات والمؤسسات والنقابات والأحزاب التى يتسع صدرها لكل قادم إليها أو مقبل عليها، إنها هى التى احتضنت (الشوام) من أشقائها العرب ليضعوا الأسس التاريخية للصحافة والأدب والشعر والمسرح والسينما والموسيقى سبيكة غالية تبقى وديعة لدى الكنانة، وقد يقول قائل: إن تفاوت الثروة وظهور اقتصاديات (الريع النفطي) قد قلبت الموازين ودفعت بدول الثراء العربى خصوصًا بين دول الخليج إلى مركز الصدارة وهذا صحيح ولكنه لا يعنى إطلاقًا تراجع دور مصر أو مكانتها، فمصر كانت ولا تزال هى (رأس الحربة) مهما انتقدها الحاسدون ومهما ترددت حولها أراجيف الكاذبين! حتى دول النفط العربى سوف تظل تنظر إليها باعتبارها المنار الذى يضم أكبر حشد من الموارد البشرية الهائلة، أما دول المغرب العربى فهى تنظر إليها باعتبارها الدولة الأكبر فى جنوب البحر المتوسط وسط شقيقاتها من دول الشمال العربى الإفريقي، إنها درة العقد. هذه ليست ملاحظات ولكنها رسالة إلى الأشقاء لعلهم يدركون أن مصر فى محنتها ما زالت واقفة كالأشجار اليانعة، وباسقة كالنخيل المثمرة، ولن تسقط أبدًا.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47426
تاريخ النشر: 11 أكتوبر 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/555292.aspx