يحمل فصل الخريف معه نسمات باردة تذكرنا بشهور (فيضان النيل) قبل السد العالى والتأثيرات على المناخ والتربة والبيئة والنهر والأرض والبحر، فضلًا عن العودة إلى المدارس والجامعات وانتهاء شهور العطلة لذلك ارتبط فى ذهنى دائمًا بذكريات ذات خصوصية يدفعها كتاب (خريف الغضب) للراحل الكبير محمد حسنين هيكل أو رواية (السمان والخريف) لأديب نوبل نجيب محفوظ، ولقد جاء خريف هذا العام ليحمل معه رياحًا مفاجئة لا نسمات متوقعة، فالمشهد يوحى بأنه خريف العرب، فالمأساة السورية تزداد تفاقمًا، والوضع فى اليمن يزداد تأزمًا، والوضع فى ليبيا يزداد غموضًا، بينما العراق بين شقى الرحي، ومصر تواجه ظروفًا اقتصادية بالغة الصعوبة لأنها أرادت أن تقتحم المستقبل وأن تبدأ مسيرة الإصلاح التى تأجلت كثيرًا منذ عقود مضت، كما أن هناك من يبث السموم فى آذان أشقائنا فى الخليج ورفاقنا فى إفريقيا فى محاولة لوضع العقبات أمام حركة مصر التى تعتز كثيرًا بأشقائها وأصدقائها ورفاق دربها، ولعلى أقدم صورة أمينة للمشهد الراهن من خلال المحاور الآتية:
أولًا: إن العلاقات - السعودية تمثل ركيزة أساسية فى العمل العربى المشترك، دعنا ننسى سنوات الخلاف فى عصر محمد على وجمال عبد الناصر، ونتذكر دائمًا أن هوى المصريين بالطبيعة مرتبط بالأماكن المقدسة ومهبط الوحى ومنزل الرسالة، وهذا شعور لا يمكن اقتلاعه من الذات المصرية لأنه تأصل فيها واختلط بها منذ فجر الإسلام، كما أن البلدين تقاسما الدعم والعطاء فى السراء والضراء، فقبل (الحقبة النفطية) كانت مصر سندًا لأهل (الحجاز) و(نجد) بل وكل الخليج، وبعد (الحقبة النفطية) دعم هؤلاء الأشقاء (مصر) فى كل المحن ووقفوا إلى جانبها إلا إذا نفث الأجنبى سمومه وحاول الإيقاع بين الشقيقتين ودق إسفين بين الدولتين، ولا ينسى المصريون ملوكًا عظامًا من طراز الملك عبد العزيز والملك فيصل والملك عبد الله رحمهم الله.
ثانيًا: أدت الطلقات الحادة والمتبادلة بين الإعلامين المصرى والسعودى إلى تشويه المشهد برمته وسكب الزيت على النار، مع أن عقلاء مصر وعقلاء المملكة يدركون أن الخلاف بين البلدين فى غير مصلحتهما معًا خصوصًا فى ظل الظروف المتوترة إقليميًا والملتهبة دوليًا، وهذا آخر وقت كان يمكن أن تحدث فيه هذه الأزمة! وإذا كانت المملكة العربية السعودية قد قدمت دعمًا ماليًا لمصر فى السنوات الأخيرة. فإن مصر بدورها هى (عمود الخيمة ) فى المنطقة لذلك فإن ضعفها ضعف للعرب، كما أن تراجع دورها سيكون بالضرورة فى غير مصلحة أشقائها بالخليج بسبب الوحدة العضوية للأمن القومى المشترك، ومصر عبرت على لسان رئيسها أنها لن تركع أمام الحصار السياسى المفروض عليها والمؤامرات التى تحاك لها لأن المصريين والعرب لا يركعون إلا لله.
ثالثًا: إن الخلاف حول المأساة السورية هو خلاف بين أشقاء حول إنقاذ شقيقهم، فبينما ترى مصر ضرورة الإسراع فى وقف نزيف الدم وإيجاد هدنة طويلة لإدخال مواد الإغاثة لأن الذى يعنيها هو سلامة سوريا ووحدة أراضيها فإن الأشقاء فى المملكة العربية السعودية يرون أن بشار الأسد هو المسئول الأول عن هذه المأساة، ولأنه جزء من المشكلة فلن يكون جزءًا من الحل، وهو خلاف لا يفسد للود قضية، كما أن تصويت مصر فى مجلس الأمن هو إجراء سيادى مارسته مصر من منطلق قومى تعبيرًا عن رؤيتها لوقف شلال الدم ونزيف الهجرة فى سوريا، خصوصًا فى المدينة الباسلة (حلب) وتضامنًا مع الشعب السورى الأبى على امتداد التاريخ، ولعل اختلاف الرؤية مع وحدة الهدف لا يمكن أن يكون مبررًا لخلاف بين الأشقاء خصوصًا أن المناخ العام لا يسمح بذلك بل يدعو إلى مزيد من الحوار المشترك والتضامن القوي، وتوحيد الرؤية مع احترام حق الاختلاف واحترام خيارات الآخر.
رابعًا: إن ما جرى وما يجرى فى اليمن هو أمر تأسف له مصر وتقلق من استمراره بسبب الأهمية الاستراتيجية لذلك البلد الشقيق الذى تتأثر مصر بموقعه عند (باب المندب) وترى أن أمنها القومى ليس بعيدًا عنه، كما أن القيادة المصرية تدرك أهمية اليمن المباشرة بالنسبة للأمن القومى السعودي، وقد دعمت مصر سياسات المملكة فى هذا السياق منذ اليوم الأول، ولكن هناك من ينفخون فى النار ويصورون الموقفين السعودى والمصرى من الأزمتين السورية واليمنية كما لو كان بينهما خلاف حاد والأمر غير ذلك تمامًا، ولقد انزعج المصريون ــــ خصوصًا على المستوى الشعبى عندما قررت المملكة وقف العمل باتفاق تجارى يقضى بإمداد مصر باحتياجات بترولية شهرية، وقد جاء ذلك فى ظل ظروف مصر الصعبة، فأسف لذلك المصريون رغم اعترافهم بأن المملكة قد ساعدت مصر كثيرًا فى السنوات الأخيرة.
خامسًا: بدت بعض التصريحات السعودية وأخرى مصرية تمضى فى سياق التجاوز ولا تضع فى اعتبارها المصالح العليا للبلدين ومخاطر ذلك التراشق على مشاعر رجل الشارع فى الدولتين، وهو أمر يحمل فى طياته خسارة كبيرة على الرياض والقاهرة معًا.
أيها الخريف العاصف ....
رحماك بأمة ممزقة وشعوب حزينة!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد47440
تاريخ النشر: 25 أكتوبر 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/557591.aspx