ندخل هذه الأيام في أجواء الذكرى الستين للعدوان الثلاثي على مصر، والذي درجت الأدبيات السياسية على تسميته (حرب السويس)، مضت ستون عامًا على اليوم الذي وقف فيه جمال عبد الناصر على منبر الأزهر الشريف يخاطب شعبه بل والعالم بأسره منددًا بالعدوان الذي جاء نتيجة لتأميم قناة السويس وردًا على التوجه التحرري لمصر، ودعمها لحركات الاستقلال العربية والإفريقية، ولقد دعتني جامعة لندن (كلية الدراسات الشرقية والإفريقية) عام 2006 في ذكرى مرور نصف قرن على حرب السويس، وطلبت إدارة الندوة الدولية أن ألقي محاضرة فيها وقد فعلت، وقد كان من بين الحاضرين البروفيسور (روجر أوين) الذي كان أستاذًا في (جامعة أكسفورد) وممتحنًا خارجيًا لي عند حصولي على الدكتوراه عام 1977 وقد أصبح بعد ذلك رئيسًا لمركز دراسات الشرق الأوسط في (جامعة هارفارد) كما كان من بين المتحدثين أيضًا وزير الخارجية المصري الراحل أحمد ماهر، ولقد طالبت في كلمتي باعتذار من الحكومة البريطانية عن مشاركتها في مؤامرة العدوان الثلاثي، بل وأضفت إلى ذلك ضرورة الاعتذار عن (جريمة دنشواي) خصوصًا وأننا كنا في الذكرى المائة لذلك الحادث المشئوم مثلما هي الذكرى الباقية بعد نصف قرن من حرب السويس، ويرى كثير من المحللين السياسيين وخبراء العلاقات الدولية المعاصرة أن حرب السويس هي نقطة التحول الفاصلة التي هزت الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية وكانت آخر مسمار في نعش الاستعمار الأوروبي التقليدي، ومازلت أتذكر من سنوات عملي في لندن أنه في التاسع والعشرين من أكتوبر من كل عام كان التليفزيون البريطاني يذيع برنامجًا يقول فيه: إن الكولونيل ناصر قد أنهى الإمبراطورية الكبيرة بضربة قاضية في حرب السويس! والمعروف أن تلك الحرب أطاحت بـ(أنطوني إيدن) رئيس الوزراء البريطاني بل ووضعت نهاية لمستقبله السياسي كله، ويتذكر الكثيرون يوم أن حضر الرئيس جمال عبد الناصر اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك عام 1960 - وكانت هي المرة الوحيدة التي عبر فيها ذلك الزعيم المحيط الأطلنطي ليصل إلى العالم الجديد - وبينما كان يجلس في مقاعد الجمعية العامة اتجه إليه من بين الصفوف رجل أشيب له شارب أبيض كثيف وسلم على عبد الناصر بنصف انحناءة قائلًا: (هارولد ماكميلان) رئيس وزراء بريطانيا، وهو يدرك أن الذي أطاح بسلفه (أنطوني إيدن) هو ذلك الرئيس القادم من الشرق الأوسط، ويومها كان عبد الناصر بطلًا قوميًا تتطلع إليه شعوب إفريقيا وآسيا بل وأمريكا اللاتينية أيضًا إذ إن حرب 1956 نقلت عبد الناصر من رئيس للجمهورية المصرية ليصبح زعيمًا عربيًا كبيرًا مثلما كانت وحدة مصر مع سوريا 1958هي التي رفعته من الساحة القومية ليتحول إلى اسم كبير على المستوى الدولي وواحدًا من مؤسسي حركة عدم الانحياز ومن بين أبرز القادة فيما كان يسمى بالعالم الثالث، فإذا عدنا إلى البدايات الحقيقية لثورة يوليو 1952 فسوف نجد أنها جاءت استجابة لتطلعات شعبية في ذلك الوقت، وقد حظيت أيضًا بمباركة أمريكية من حيث نظرة (واشنطن) الجديدة للشرق الأوسط كي يتحول إلى مركزٍ للنفوذ الأمريكي بعد زوال الاستعمار الأوروبي التقليدي، وخروج البريطانيين والفرنسيين من معظم دوله، ولم يستمر شهر العسل بين ثوار يوليو وواشنطن لأن إسرائيل دائمًا كانت هي الطرف الثالث في تلك العلاقة فاتجه عبد الناصر يطلب السلاح من الكتلة الشرقية، وتحديدًا من دولتي (تشيكوسلوفاكيا) و(الاتحاد السوفيتي) السابقتين، كما أن الكيمياء البشرية لم تتفاعل بشكل جيد بين الكولونيل الصاعد جمال عبد الناصر و(جون فوستر دالاس) وزير الخارجية الأمريكية فسحبت (واشنطن) عرض البنك الدولي بتمويل مشروع السد العالي مما دفع عبد الناصر في اتجاه آخر ليعلن تأميم قناة السويس وتصبح حرب 1956 هي النتيجة الطبيعية لذلك القرار الوطني الخطير الذي كان ينطوي وقتها على نوع من التحدي السافر لامبراطوريتين عاتيتين، فضلًا عن تطلع إسرائيل لاستثمار الموقف ودخول سيناء التي لم تتركها إلا بقرار أمريكي اتخذه الرئيس الراحل (دوايت أيزنهاور) منذ ذلك الوقت، وقد بدأت المشكلات تتوالى على المنطقة بدءًا من الانفصال عام 1961مرورًا بحرب اليمن وصولًا إلى نكسة 1967، وأنا أظن أن الذكرى الستين لحرب السويس 1956يجب أن تكون ذات دلالة خاصة فالمنطقة تتعرض لهجمة مزدوجة المصدر أولهما من الإرهاب الدولي والثانى من القوى الأجنبية التي تسعى لاستغلال ظروف المنطقة في إعادة تقسيمها بعد مائة عام تقريبًا من (سايكس - بيكو) وهو ما يستوجب نظرة عضوية شاملة تربط الماضي بالحاضر وتتطلع نحو المستقبل.
إن حرب السويس 1956 هي علامة فارقة في تاريخ الوجود الأجنبي في المنطقة حتى إن بعض المؤرخين السياسيين يصرون على استخدام تعبير ما قبل السويس وما بعدها، ولعل الدور المحوري المركزي لمصر يعزز إلى حد كبير أهمية تلك المعركة التي تمكن عبد الناصر من تحويل هزيمتها العسكرية إلى انتصار سياسي حقيقي أعطى دفعة قوية لحركات التحرر الوطني، ومحاولات الخلاص من الوجود الأجنبي، فأين نحن الآن بعد ستين عامًا!؟
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47447
تاريخ النشر: 1 نوفمبر 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/558820.aspx