تأتى ذكرى ميلاد الإنسان لكى تكون مناسبة يراجع فيها ماضيه ويتأمل حاضره ويستلهم الطريق فيما بقى من عمره، ولقد عكفت على هذا التقليد لسنوات طويلة، ولكننى أراجع ما مضى هذه المرة ـــ برؤية مختلفة إذ لم أعد حريصًا على موقع أو متطلعًا لمنصب، ولقد أذل الحرص أعناق الرجال كما يقولون، وها أنا أطرح فى شفافية الجانب الأكبر من أخطائى فيما مضى لعل بعض الشباب يجد فيها ما يدفعهم نحو دروب جديدة، كما أطرح ولأول مرة فى حياتى جزءًا من المعاناة الكامنة التى دفعت ثمنها مع سنوات العمر التى انقضت وأوجزها فى الملاحظات التالية:
أولاً: لقد نشأت فى ظل نظم حكم سلطوية بالطبيعة بينما كنت أدرس كمًا هائلًا من الكتابات والمعلومات حول الديمقراطية وقضايا الحريات، ولقد أدى التناقض بين ما أشاهده فى الواقع وبين ما أقرأ عنه إلى عملية ارتباك فكرى دفعت بى إلى الجنوح نحو الواقع حتى ولو لم يكن مرضيًا مع إيمان عميق بأن (اليوتوبيا السياسية) هى أقرب إلى البحث عن أرض الأحلام، ولقد كان تواصل دورى على هامش السلطة الحاكمة بمنزلة انتحار نفسى أدرك مخاطره ولكننى لا أستطيع الفكاك منه وكان التبرير الذى أقوله لنفسى إن العمل تحت مظلة الشرعية هو الأفضل والأدوم، ولقد كان الرئيس الأسبق مبارك يداعبنى أحيانًا قائلاً: إنك تشبه (مراجيح الهواء) وهذا صحيح لأننى كنت مع السلطة أحيانًا ومع المعارضة فى أحيان أخرى متحمسًا للقرار الرشيد مهما يكن مصدره كالمتفرج الذى يشجع اللعبة الجيدة التى تصب فى خانة مصلحة الوطن، وهذا أمر لا يفهمه المصريون خصوصًا بعض حكامهم إذ يتصورون أن المواقف حدية فإما الأبيض أو الأسود رغم أن بينهما مساحة رمادية واسعة تعكس ظلالًا قد تتصل بالمصلحة العليا للبلاد.
ثانيًا: عانيت أيضًا عبر سنوات طويلة من احتمالات الابتزاز لأن النظم المتعاقبة تعودت فتح ملفات للشخصيات العامة أو من يشغلون وظائف مهمة تبدأ من أنه قد شوهد يجلس فى بهو فندق يتحدث مع سيدة وصولًا إلى المشاركة فى عمل ضار يخرج به عن مقتضيات الوظيفة، ولقد توسعت الأجهزة الأمنية فى ذلك الاتجاه وجعلت دائرة الاشتباه تعصف بالجميع تقريبًا، ولقد جاء فى العهد الجديد ( من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر) والأحجار جاهزة دائمًا! وويل لك إذا خرجت عن الخط المرسوم فعملية تشويه الصورة أو الاغتيال المعنوى جاهزة فى كل وقت لذلك عشت مضغوطًا لأننى لست نبيًا وفى الوقت ذاته لم أقترف عملًا يضر الصالح العام والغريب أن النظم التى عشنا فيها كانت مستعدة لابتلاع خطايا البعض وتصيد أخطاء البعض الآخر، فكل حسب وزنه على الساحة العامة أو قربه أو بعده من السلطان!
ثالثًا: ويل لمن يحوز الكفاءة ويمتلك القدرة وسط من لا يحوزون ولا يملكون، فلقد درج المصريون فى العقود الأخيرة على التطلع إلى كل صاحب إنجاز وإلى كل نجم يسطع لجذبه إلى أسفل بدلًا من الارتفاع إليه! وقد كان الكاتب الصحفى البارز مفيد فوزى موفقًا عندما اخترع تعبير (حزب أعداء النجاح) إذ لا يفهم الكثيرون أن فى الوطن متسع للجميع وأن على الكل أن يبذل جهده ويتفانى فى خدمة وطنه مع استعداد لغفران الهنات الصغيرة والهفوات البشرية التى لا يجب الوقوف عندها أو التهويل بشأنها أو التشهير بأصحابها.
رابعًا: لقد جبلت منذ طفولتى على فلسفة ذاتية تقوم على التوازن وتؤمن بالتعادلية، وأنه لن يستطيع إنسان أن يأخذ كل شيء لأنه لم يعش الدهر كله كما لم يعش فى كل مكان، والحياة لا تعطى الصحة والثروة والسلطة والذرية فى آن واحد وعلى المرء أن يقنع بالقليل من كل منها، فالإنسان له حدود (إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولًا) ، ولقد رأيت فى حياتى كيف تحول الكثيرون بفعل السلطة أو الثروة وأصبحوا مخلوقات أخرى ترتفع أكتافهم ويصعرون خدهم للناس، ولقد آمنت بأنه ما من دار ملئت حبرة إلا ملئت عبرة، ولقد كان والدى رحمه الله يقول لى (إذا زهزهت خاف منها) أى إذا اقبلت عليك الدنيا فكن حذرًا فكل شيء إلى زوال.
خامسًا: تنتابنى بين حين وآخر نزعات فلسفية قلقة تتأرجح بين الوجود والعدم، وتدعونى إلى التساؤل فى جدوى كثير مما نفعل وتنتزع منى كل ما يتعارض مع (ثالوث) الحق والخير والجمال لذلك عشت حياتى مقبلًا على الآخرين داعمًا لهم حريصًا عليهم حتى أن زوجتى ناقشتنى أكثر من مرة كيف أبدو سعيدًا لنجاح تحقق لبعض خصومي؟ وكيف أتمكن من الارتفاع فوق الأزمات العابرة والانتصار على لحظات الانكسار، والذين عرفونى يوم أن أبعدت عن مؤسسة الرئاسة أو يوم إعفائى من رئاسة لجنة مصر والعالم أو يوم إزاحتى من الخارجية إلى البرلمان يدركون أننى كنت فى كل المواقف صلب العود صافى النفس مؤمنًا بالوطن والإنسان.
هذه خواطر أسجلها يوم مولدى الذى قال عنه (كامل الشناوي) إنه يوم بلا غدٍ.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47461
تاريخ النشر: 15 نوفمبر 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/561336.aspx