أحدث مقالى فى الأسبوع الماضى أصداءً واسعة لدى الأصدقاء وغير الأصدقاء على حد سواء مما أغرانى باستكمال الحلقتين الباقيتين من هذه الثلاثية التى تعبر بصدق كامل عما أريد أن أقوله، لذلك ابتلعت قرصين من (حبوب الشجاعة) ورأيت أن أقول الآتي:
أولًا: إن معظم الخبطات التى يتلقاها المرء تأتى ممن يقف إلى جانبهم ويقدم لهم يد العون تأكيدًا للمأثورة الخالدة (اتق شر من أحسنت إليه) إذ أنك عندما تساعد إنسانًا طبيعيًا فإنه يظل مقدرًا لما فعلت أسيرًا لمعروفك، ولكن هناك نفر خسيس تحرك فيه مساعدتك مركب النقص الكامن لديه فتنطلق من أعماقه نوازع شريرة سببها الغيرة العمياء لا التنافس الشريف المحكوم بالقيم الأخلاقية، وهو أمر يثير الحزن ويدعو إلى الأسى ولكنها جينات موروثة لدى البعض لا يشفى منها أبدًا! وكل منا يعرف أمثلة حدثت معه أو مع من حوله.
ثانيًا: لقد جبلت على عادة تبدو الآن غير شائعة وهى الإسراع فى نجدة المحتاج وتقديم الخدمات لمن أعرف ولمن لا أعرف، ولقد كبدتنى تلك العادة الرعناء ثمنًا فادحًا لذلك يجب التدقيق فيمن يحتاج إلى عون أو يطلب خدمة، ولقد كان من المآخذ التى وجهت إليَّ الإسراف فى خدمة الناس رغم أنها خدمات لوجه الله والوطن وينصرف معظمها لرفع المظالم أو استرداد الحقوق ولم أسمح لنفسى يومًا بأن ينال شخص فرصة على حساب الغير، ولقد ساعدت المئات ممن لا أعرفهم، ولازال الكثيرون يذكروننى بأننى وفرت عملًا لواحد من أسرته أو ساعدته فى الحصول على مسكن لأحد معارفه، وبقدر ما يصيبنى ذلك من سعادة ورضا يثير لدى قلقًا لأنه فى مقابل شخص قضيت حاجته هناك عشرات لم يتحقق لهم ذلك فالحاجات متعددة والفرص قليلة، تلك مشكلة دول الأعداد الكبيرة التى سمحت للمشكلة السكانية بأن تمتص كل عوائد التنمية فيها، ولعلى أجدد العهد بينى وبين نفسى فى هذه المناسبة الشخصية الخاصة بأن أكون عونًا لكل من يقصدنى لأن تلك طبيعة فطرت عليها وانصهرت معها.
ثالثًا: أخذ عليَّ بعض المحبين لى والمتحمسين لتاريخى أننى رغم معارضتى الكامنة لبعض أنظمة الحكم المصرية فى مراحلها المختلفة إلا أننى لم أقطع (شعرة معاوية) بينى وبين الشرعية التى تحكم برغم أخطائها وأنها لا تخلو من فساد ولا تبرأ من استبداد، وردى على ذلك هو أن المرء يستطيع أن يجلس على الشاطئ الآخر من النهر ينتقد بلا جدوى ويهاجم بغير فائدة ولكنه قد يستطيع من خلال النظام نفسه أن يغير إلى الأفضل ولو بعض قرارته وسياساته، وحيث أنتمى إلى شريحة من المثقفين الذين سعت بعض الأنظمة إلى التجمل بهم والإبقاء عليهم لا حبًا فيهم ولا حرصًا عليهم ولكن كان ذلك للاستفادة من وجودهم تبريرًا للتعددية الغائبة وبحثًا عن الثقة المفقودة ودعمًا للشرعية الناقصة، وليس معنى ذلك أنه قد أصابنى الخرس الكامل فلدى سجل موثق لمقالات منشورة وأحاديث مرئية ومسموعة لا تخلو من اعتراض واضح على سياسات قائمة بل لقد تجاوزت فى بعضها حدودًا لم تكن تسمح بها البيئة السياسية الحاضنة وأتحمل نتائجها تقريعًا وتبكيتًا بل وتهديدًا فى بعض الأحيان، ولقد وصلت درجة الابتزاز أن صحيفة مصرية مسائية جعلت العنوان فى صفحتها الأولى بل ومعظم المواد المكتوبة تجريحًا فى شخصى وتلميحًا لإرهابى ولكننى مضيت فى طريقى رغم أن حجم التسامح كان محدودًا، ولابد أن أعترف هنا أننى لا أدعى غير الحقيقة فلا أزعم مثلًا أننى كنت (عنترة يحمل سيفًا) فى وجه النظام ولكننى كنت أسعى دائمًا إلى حد أدنى من الاتساق مع قناعاتى وقد نجحت فى بعضها ولكننى فشلت فى معظمها، بقى أن أقول هنا أن الكثيرين من الناقمين على هذا الأسلوب كانت لهم مطالب ذاتية وطموحات شخصية وعندما لم تتحقق قفزوا من السفينة وأصبحوا بحق مطاريد النظام أكثر منهم أصحاب مبادئ أصيلة.
رابعًا: لقد اخترت ان تكون مسيرة حياتى على جبهة عريضة فكنت دبلوماسيًا وأكاديميًا وبرلمانيًا وإعلاميًا فى ذات الوقت وأنا أعترف الآن ـــ موجهًا حديثى للأجيال الجديدة من الشباب ـــ أنه من الأفضل أن يركز المرء فى حياته على طريق واحد خيرًا من تشتيت الجهود والمضى فى كل الاتجاهات حتى وإن تحقق فيها نجاح ملحوظ! فمنطق العصر هو التخصص ولم يعد هناك وجود للشخصية (الموسوعية) كما عرفناها فى تاريخ بعض الحضارات.
خامسًا: إن علاقة الإنسان بالزمان علاقة قاتلة، وصدق من قال الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك حيث لا يجدى البكاء على اللبن المسكوب، ولا يبقى أمل فى استعادة فرصة ضائعة، ولو أننى استقبلت الآن من أمرى ما استدبرت لغيرت كثيرًا من آرائى ولسعيت إلى دراسة القانون واشتغلت بالسياسة والمحاماة إذ أعترف هنا أننى لازلت شديد الإعجاب ببعض (باشوات) السياسة والحكم فى فترة ما قبل يوليو 1952! إنها بعض من شهادتى لله وللتاريخ وللوطن.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47468
تاريخ النشر: 22 نوفمبر 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/563528.aspx