سوف أطرح فى جرأة محسوبة تطور موقفى من روح الأديان ومفهوم الإيمان، وأبادر بداية لأسجل أننى متيقن عقليًا من وجود الإله إذ أن نظام الكون والتركيبة المعقدة لمسارات الحياة والعلاقة بين الإنسان والحيوان والنبات تؤكد كلها أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق وهو مهندس الكون الأعظم، ولقد بدأت طفولتى فى القرية متدينًا مفرطًا فى التدين، قارئًا مسرفًا فى القراءة، أغشى المساجد وأتطلع إلى حلقات العلم بل والذكر أحيانًا، وظل ذلك دأبى حتى أضحيت غلامًا ذكيًا فتنوعت قراءاتى فى الفلسفة والتاريخ والسياسة والأدب والفن حتى أصبحت أسيرًا للفكر التقدمى أتعاطى بعض الآراء اليسارية وأبتعد رويدًا رويدًا عن التدين الذى استغرقت فيه ما يقرب من خمسة عشر عامًا حتى عكفت راغبًا على التبحر فى دراسة بعض الفلسفات والديانات عابرًا ـــ خلال الكتب ــــ إلى ثقافات بعيدة وحضارات عريقة، وعندما مات المفكر الكبير عباس محمود العقاد فى مارس 1964 انفعلت مع رحيل ذلك المفكر الضخم وكتبت دراسة بعنوان (مع العقاد فى السماء) على غرار ما كتبه د.أحمد زكى فى كتابه الرائع (مع الله فى السماء) ولم تخل كتاباتى فى ذلك الوقت من نزعة متمردة كادت تقترب من بعض النزعات الإلحادية أحيانًا، ولكن لأن تكوينى قلق بطبيعته وفلسفتى فى الحياة مشوبة بشيء من الحذر من المجهول والتخوف إزاء الأحداث الطارئة والمواقف المفاجئة فلقد استرددت إيمانى بعد فترة وجيزة عميقًا وصافيًا وإن لم يعد تدينى إلى سابق عهده ولكن إذا ركبت الطائرة وبدأت فى الاهتزاز تدفقت الآيات القرآنية من فمى فقد كنت حافظًا لكتاب الله منذ طفولتي، وقد كان أبى رحمه الله يمتحننى فيما أحفظ رغم أنه لم يكن رجل دين إلا أنه كان طيبًا سمحًا نقيًا وكان ممن يعرفونه (إمام الأئمة وبدر التتمة) كما أناديه دائمًا وأقصد بذلك العلامة الدكتور على جمعة الذى كان زميلًا لأخى فى الدراسة بجامعة عين شمس وكانا يجلسان مع أبى والقرآن هو مادة الحوار وثروته وجوهره وظللت طوال سنوات عمرى بعد ذلك مبهورًا بالحضارة الغربية محاولًا المزج بينها وبين الحضارة العربية حتى انصرفت دراستى للدكتوراه إلى موضوع لا يبتعد كثيرًا عن ذلك وهو يدور حول (الأقباط فى السياسة المصرية) عابرًا على العصر الملكى بأريحيته وحرياته مارًا بالعصر الناصرى الذى كرس فى أعماقى المفاهيم الاشتراكية وفلسفة العدالة الاجتماعية وصولًا إلى عصر السادات الذى كان يرفع شعار العلم والإيمان حتى لقبه الإعلام بالرئيس المؤمن، إن رحلة الإنسان من الشك إلى اليقين ليست سهلة كما أن الإيمان بعد شك هو الأقوى والأعمق لأنه يعنى أن الإنسان استطلع كل ما حوله ووصل إلى صياغة متوازنة بين الجانبين الروحى والمادى فى تكوينه، ومازلت أتذكر عندما ألزمنى الرئيس الأسبق مبارك بأداء صلاة العيد مع مرافقيه فى مسجد سيدنا الحسين وفقدت يومها حذائى وقلت لنفسى ساخرًا إن المؤمن مصاب! كما أننى صليت فى أركان الكعبة الأربعة من داخلها يوم أن أمر الملك فهد بفتحها للرئيس المصرى احتفالًا بعودة العلاقات بين القاهرة وشقيقاتها العربيات عام 1989ولقد شاركت دائمًا فى المؤتمرات المتصلة بالأديان المقارنة والحوار بين أتباعها وكنت فى كل الأحوال مؤمنًا صادق الإيمان متسائلًا يكبح جماح شكوكه ويقضى عليها بالإيمان العميق الذى تجذر وتأصل عبر مسيرة العمر، ولقد أسرفت على نفسى كثيرًا فى الاستمرار فى الأجواء الروحية كلما سنحت لى سانحة فأنا مستمع جيد للقرآن الكريم أفرق بين أصوات مصطفى إسماعيل وعبد الباسط عبد الصمد ومحمود خليل الحصرى ومحمود على البنا وعلى حزين وطه الفشنى وعبد الرحمن الدروى وعبد العظيم زاهر ومنصور الشامى الدمنهورى والبهتيمى والمنشاوى ومحمود الطبلاوى وأحمد نعينع وأيضًا القدامى من المشايخ أمثال الشعشاعى والصيفى وأبو العينين شعيشع ويسبقهم جميعًا الصوت الملائكى للشيخ محمد رفعت وغيرهم من الأصوات الرائعة فى التاريخ المصرى للثقافة الإسلامية ولدى دائمًا رغبة دفينة فى الدفاع عن صحيح الإسلام وأحمل فى الوقت ذاته احترامًا شديدًا للديانات الأخري، وقد ربطتنى علاقة صداقة وثيقة بقداسة البابا الراحل شنودة الثالث وكنت مبعوثًا للرئيس الأسبق مبارك إلى بابا الإسكندرية فى كل المناسبات حتى بعد أن تركت الخدمة فى مؤسسة الرئاسة فكان الرئيس يطلب منى أن أذهب مع د.زكريا عزمى أو من يراه لمواصلة الدور الذى بدأته حتى إننى أزعم أننى الذى أقنعت البابا الراحل بالعودة من منفاه الاختيارى فى دير وادى النطرون قرب نهاية عام 2010 عندما ذهب إليه احتجاجًا على أحداث العمرانية حينذاك.
هذه خواطر ألحت على فى عيد ميلادى متذكرًا شريطًا طويلًا من الذكريات فيه إنجازات وإخفاقات، فيه انتصارات وانكسارات تيقنت بعدها أن الحياة هى مجموع اللحظات السعيدة التى تعيشها وحين ترى الحب فى أعين أصدقائك ومعارفك بغير مصلحة أو تزلف أو نفاق أو رياء، إنها اعترافات موجزة لرحلة عمر اختلطت فيها الآلام بالآمال ولكن الروح ظلت صامدة تواجه الرياح العاتية والأنواء العاصفة والمفاجئات الطارئة، إنها ليست سيرة شخصية ولا هذيانًا وقتيًا ولكنها سطور قليلة أتوجه بها إلى أبنائى وبناتى فى عمر الشباب لعلهم يحسنون الاختيار ويتجنبون الأخطاء ويعرفون أن العمر يمنح لصاحبه مرة واحدة!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47475
تاريخ النشر: 29 نوفمبر 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/564671.aspx