لو نظرنا إلى التحالفات القائمة في منطقة الشرق الأوسط وعلاقات العرب بغيرهم من دول الجوار فسوف نكتشف أنها محكومة إلى حد كبير بالماضي وأنها تكاد تكون إرثًا له وامتدادًا لقرون من العلاقات المتصلة والحساسيات القائمة في ذات الوقت، ولو أخذنا نموذجي “إيران” و”تركيا” في جانب والدول الإفريقية في جانب آخر فسوف نجد أن العرب هم وجيرانهم يتصرفون دائمًا بمنطق التوتر التاريخي الذي عرفته المنطقة في الماضي، فالعلاقات العربية الفارسية كما هي العلاقات العربية التركية لا تبتعد كثيرًا عن العلاقة المركبة بين العرب وأبناء القارة الإفريقية، ولعلي أتطرق إلى هذا الموضوع حاليًا لأنني أرى أن منطلقات المشهد الحالي لا تبدو بعيدة عن تاريخ العلاقات المتبادلة بين العرب وتلك القوى الإقليمية، وهنا يحسن أن نوجز ما نريد أن نصل إليه في النقاط التالية:
أولًا: لقد وقعنا في الفخ وابتلعنا الطُعم وتحدثنا طويلًا عن الخلاف المذهبي بين الشيعة والسنة بينما الأمر يحتاج إلى قراءة مختلفة فهو صراع قومي بين العرب والفرس وليس صراعًا دينيًا في المقام الأول، ويجب أن ندرك أن لدينا ملايين من الشيعة العرب الذين سبقت عروبتهم تشيعهم وسبق تشيعهم التشيع (الصفوي) في إيران بعدة قرون، إنها مواجهة بين العرب والموالي، بين القادمين من الأرض العربية وبين العجم الذين يمثلون بلاد فارس لذلك لا يمكن أن يكون الخلاف معهم دينيًا بل هي عملية توظيف للمعتقد الديني في خدمة أهداف سياسية ربما تكون على المدى القصير فقط .
ثانيًا: إذا تحركنا من إيران نحو الشمال الغربي فسوف نجد أن السلطان العثماني الجديد (أردوغان) يستبيح لنفسه ما يحرمه على الآخرين ويتصرف في عنجهية واستبداد لا يتمشيان مع الظروف الدولية والإقليمية في هذه المرحلة .
ثالثًا: لا يخفى على أحد أن الخلاف بين دول الشمال الإفريقي ودول المشرق العربي إنما هو خلاف أيديولوجي اكتسى برداء تاريخي، ولا يخفى على أحد مرة أخرى أن ثلثي العرب يعيشون في القارة الإفريقية لذلك فإن أي خلاف تاريخي بينهما إنما هو صدام مصطنع عبثت به أيد أجنبية حاولت دائمًا ضرب العلاقات العربية الإفريقية رغم كل الجهود التي قامت بها بعض الدول العربية خصوصًا بعد انحسار الظاهرة الاستعمارية .
رابعًا: إن أحد البرلمانات الإفريقية قد وضع عند مدخل مبناه صورة منحوتة لتاجر عربي يسحب الإفريقي مقيدًا بالسلاسل على اعتبار أن العربي هو (النخاس) الحقيقي وتلك صورة ذهنية ظالمة حاولت بعض الدوائر الاستعمارية الترويج لها في محاولة لتدمير أي احتمالات للتعاون العربي الإفريقي المشترك في المستقبل، إلا أن مؤتمرات القمة العربية الإفريقية التي بدأها عبد الناصر في مطلع ستينيات القرن الماضي قد قطعت شوطًا في ذلك على نحو أزال جزءًا كبيرًا من ذلك الضباب ومازال الطريق طويلًا حتى نصل إلى درجة من الشفافية التي نفتقدها إلى حد كبير في حياتنا المعاصرة ولقد تجلت تلك الحساسية في مواجهات عربية إفريقية أكدت العقدة التاريخية التي زرعها الاستعمار بين العنصرين.
خامسًا: إن الإسلام مظلة كبيرة لها دورها في انصهار المجتمعات العربية والإفريقية والإسلامية بوجه عام والإسلام دين غير عنصري يجمع ولا يفرق ويضع دستورًا للمساواة يؤكد فيه (ألا فارق بين حر قرشي وعبد حبشي إلا بالتقوى) لذلك فإن الذين يراهنون على عناصر التفرقة المختلفة إنما يعيشون في وهم آن له أن يزول.
سادسًا: إن العلاقات العربية بدول التخوم إيران وآسيا الوسطى شرقًا وتركيا وشواطئ المتوسط شمالًا وإفريقيا ومنابع النيل جنوبًا هذه المساحات الهائلة التي تضم مئات الملايين من البشر هي الأحق بحالة من التوافق الجغرافي والتاريخي بحكم ما تشكل بعنصري الزمان والمكان وسوف نظل نرصد دائمًا المتغيرات الإقليمية لكي ندرك أسباب المشكلات القائمة والأزمات الطارئة والهواجس الدفينة، إننا نحلم بعالم واحد يعيش فيه الجميع سعداء بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين.
سابعًا: إن هذه المنطقة من العالم التي تبدو بؤرة للصراعات ومركزًا للمواجهات هي الأرض التي خرجت منها الرسالات السماوية وانصهرت فوقها الثقافات البشرية والحضارات الإنسانية ولذلك فإنه من العبث مرة أخرى أن نجتزئ الحقائق أو نستغرق في التفاصيل دون وجود رؤية شاملة تسمح لنا بأن نعرف ما يدور حولنا.
إننا أردنا من هذه السطور السابقة أن نؤكد أن العقد التاريخية تمضي بنا في كل اتجاه لتستدعي من التاريخ البعيد والقريب أسبابًا للخلاف وعوامل للتوتر وقد لا ندرك في الظاهر تلك الدوافع الخفية ولكن استقراء التاريخ والتدقيق في الأحداث يصل بنا أحيانًا إلى اكتشاف العوامل الضاغطة من إرث تاريخي أو خلاف مذهبي أو عداء عنصري، فلكل حادث جذوره ولكل موقف دوافعه ولا شيء نراه في فضاء المنطقة وقد نبت من فراغ فكل شيء قد بدأ وتطور عبر السنين مندفعًا من ظواهر قديمة ومشاعر دفينة وعقد مركبة حدثت في عصور سحيقة ولم نتمكن من الخلاص منها أو القفز فوقها للوصول إلى عصر نحياه وندرك غاياته.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47482
تاريخ النشر: 6 ديسمبر 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/565840.aspx