تلقيت دعوة من الدكتور إسماعيل سراج الدين مدير مكتبة الإسكندرية – ومؤسس كيانها الدولى ودورها المحلي– للمشاركة فى أعمال ندوة مشتركة بين جامعتى (كامبريدج) و(برمنجهام) ومكتبة الإسكندرية حول موضوعات الساعة التى تدور فى فلك الإسلام السياسى وقضايا العنف التى شكلت ظاهرة الإرهاب المعاصر وكيف يقف جوهر الإسلام بعيدًا عن هذه الممارسات الموروثة فى تاريخ الإنسان، وقد انعقدت الندوة فى حرم جامعة (برمنجهام) بحضور شخصيات مختلفة يتقدمهم د.سراج الدين وشخصيتان بارزتان من الحقل الثقافى لمكتبة الإسكندرية وهما د.خالد عزب أستاذ الآثار المعروف و د.سامح فوزى المثقف المصرى المتميز، وقد شارك فى الندوة أساتذة كبار من جامعتى برمنجهام وكامبريدج كما شارك فى الندوة مجموعة من الشباب المثقف الواعد أذكر منهم الأساتذة يوسف وردانى وسعيد شحاتة ومصطفى خديوى ومحمد مطش إلى جانب باحثين كبيرين من العراق وشاب متميز أكاديميًا من المملكة العربية السعودية، وقد بدأت وقائع الجلسة الأولى بمقدمة إضافية طرحها الدكتور إسماعيل سراج الدين وأنهاها بفيلم وثائقى رائع عن مكتبة الإسكندرية وجهودها فى مجال مكافحة التطرف ومجابهة العنف والحرب الفكرية على الإرهاب حيث ينعقد مؤتمرها السنوى الثالث فى مقرها بالإسكندرية خلال الشهر المقبل، وهو الذى تشرفت بالمشاركة فى دورتيه السابقتين وضم خلالهما حشدًا كبيرًا من المثقفين والخبراء والمتخصصين فى الشئون الدولية والسياسات الإقليمية، وقد مضت جلسات ندوة برمنجهام متعمقة وجادة على امتداد يومين كاملين حيث تضمنت بحوثًا ثرية وآراءً نيرة تعتمد على دراسات وإحصاءات ومسح فكرى شامل للظواهر السياسية والاقتصادية والثقافية التى تؤثر على ظاهرة الإرهاب وتؤدى إلى تنامى آثارها بشكل يكاد يؤثر على البناء الحضارى للبشرية ويمثل عدوانًا سافرًا على التراث الإنسانى وعبثًا بالهوية الثقافية للشعوب وترويعًا للمجتمعات الآمنة مع دق إسفين بين القوميات المختلفة والديانات المتعددة، وقد تحدثت فى الجلسة الأولى عقب الافتتاح مباشرة حول ظاهرة الإسلام السياسى ودلالاتها وتنامى وجودها وذكرت أن ميلاد جماعة الإخوان المسلمين فى مصر هو التوقيت التاريخى للميلاد الحقيقى للإسلام السياسى المعاصر إذ خرجت معظم التنظيمات الدينية المتأسلمة من رحم تلك الجماعة وكان بعضها معتدلًا نسبيًا والآخر وسطًيا مقبولاً ولكن الأغلب الأعم احترف العنف وركب موجة التطرف باسم دين عظيم هو رمز السماحة واحترام خيارات الآخر والقبول بحق الاختلاف مع الغير، فالإسلام براء من هذه الظاهرة التى التصقت به وحاولت تشويه صورته خصوصًا فى السنوات الأخيرة، كما تحدثت عن العوامل السياسية والأسباب الاقتصادية والظروف الثقافية المحيطة بتلك الظاهرة مع ضرب نماذج لها فى أنحاء العالم وربطت بين ذلك وبين الأوضاع الطارئة والتى تتمثل فى وضوح التوجهات الغربية الجديدة واحتمالات سيطرة اليمين المتشدد على مقاليد السياستين الأمريكية والأوروبية وربطت بين تصويت الشعب البريطانى للخروج من الاتحاد الأوروبى وقرب دخول الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فضلًا عن التطورات الأخيرة فى فرنسا ومثيلاتها فى بعض عواصم دول الاتحاد الأوروبي، فنحن بصدد تحول كبير فى مسار السياسة الدولية قد يؤدى إلى تصعيد على الجانب الآخر يدفع المواطن العادى فى العالمين العربى والإسلامى ثمنه الباهظ مثلما حدث من قبل، وقد جرى حوار حول هذا العرض الموضوعى واتسمت آراء الحاضرين بتأثير خبراتهم المتخصصة فى هذا الموضوع لتجعل منه أسلوبًا محايدًا لهذه الندوة الدولية الهامة التى جاءت فى وقتها حيث التحولات تسرع من حولنا والمسائل تتعقد أمامنا، ولقد أثار لدى حضورى هذه الندوة الهامة عدد من الخواطر ظلت تطوف بذهنى أثناءها وبعدها وأجملها فى النقاط التالية:
أولًا: إن مكتبة الإسكندرية قد أثبتت خلال العقدين الأخيرين أنها منارة ثقافية على شاطئ المتوسط، وأنها مركز إشعاع حضارى ينطلق من الإسكندرية وقد امتدت أنشطتها وتشعبت فى الداخل والخارج لتعالج القضايا المطروحة وتبحث فى الظواهر الوافدة واكتسبت اسمًا دوليًا يقترن بالاحترام حتى تهافتت عليها المؤسسات الدولية والمنتديات العالمية، وتملك المكتبة ذخيرة من خيرة أبناء مصر فى التخصصات المختلفة، ولا زلت أذكر ذات يوم منذ أكثر من ربع قرن عندما كنت أعمل فى مؤسسة الرئاسة وتحملت يومها مسئولية استقبال أرقام مساهمات الدول العربية فى ذلك الصرح الكبير الذى أعاد أمجاد مكتبة الإسكندرية القديمة فأثبت تواصل الأجيال مؤكدًا أن عبقرية الشعب المصرى هى شمس مشرقة لا تغيب أبدًا.
ثانيًا: إن الحوار هو السمة الغالبة لأنشطة مكتبة الإسكندرية نتيجة العناية بالرأى الآخر واحترام خيارات الغير لذلك اكتسبت المكتبة أرضية دولية واسعة ومساحة محلية غير مسبوقة وأصبحت مسئولية مصر تجاهها هى الحفاظ عليها والصعود بها والحيلولة دون تراجع دورها فهى إضافة هامة تملأ الفراغ الثقافى الذى تعانى منه المنطقة أحيانًا.
ثالثًا: تبدو القيمة الحقيقية للمنتديات المشتركة التى تسهم فيها مكتبة الإسكندرية فى أن المخرجات الصادرة عنها تتحول إلى مادة متاحة يسترشد بها صانع القرار إذا رأى فيها جديدًا يعينه أمام محنة الحكم وأزمات السياسة، فالمكتبة جهاز يمكن استخدامه لترشيد القرارات وبعث الحياة فى كثير من الخلايا الفكرية الراكدة.
ولا أنسى أن أتحدث عن برمنجهام المدينة البريطانية التى تبدو شديدة الجدية ومفرطة فى الصرامة وهى تضم نسبة عالية من غير أبناء البلاد، خصوصًا من شرق وجنوب آسيا فضلًا عن جالية يمنية كبيرة فهى بحق مدينة دولية استحقت استضافة الندوة الرائعة لمكتبة الإسكندرية.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47489
تاريخ النشر: 13 ديسمبر 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/567112.aspx