أضحت عبارة تجديد الخطاب الدينى شائعة ــــ قولًا وكتابة ــــ فى مناسبات مكررة حتى كادت تفقد مفهومها الصحيح شأن كثير من الشعارات التى رفعناها عبر السنين ولكنها فقدت مدلولها مع الوقت على حد تعبير الكاتب الصحفى الدكتور أسامة الغزالى حرب فى عموده منذ أيام، ولكننا نعترف بداية بأن الرئيس عبد الفتاح السيسى عندما طرح هذه القضية منذ أكثر من عامين كان سبّاقًا ورائدًا إذ إن مسألة التجديد كانت غائبة أو متوارية منذ عصر الإمام المجدد محمد عبده وبعض تلاميذه، ولعلنا ندرك أن دعوة رئيس مصر ــــ بلد الأزهر الشريف ـــ إلى تجديد الفكر الدينى كانت ولا تزال دعوة مدوية ذات أصداء قوية لا فى العالمين العربى والإسلامى وحدهما ولكن فى العالم كله بل إن هذه الدعوة الخالصة لإنقاذ الإسلام الحنيف من براثن التشدد والغلو والتطرف وهى أمهات طبيعية للعنف والإرهاب، أقول إن هذه الدعوة كانت إحدى الأطروحات المهمة التى لفتت انتباه الرئيس الأمريكى المنتخب ترامب وجعلته داعمًا للحرب المصرية فكريًا ضد الإرهاب الذى يتمسح بتعاليم الإسلام وهى منه براء، ولقد ترددت تفسيرات مختلفة لم يتحمس بعضها لكلمة التجديد لأنهم رأوا فيها ـــ من وجهة نظرهم ـــ مساسًا بثوابت الدين ولكن غاب عنهم أن الأمر يتصل بتجديد الخطاب الدينى ولا يمكن أن يتطرق إلى تجديد الدين ذاته الذى هو ثابت بالإيمان فى القلوب والعقول معًا وهم ينسون المأثورة الشهيرة (يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها فهم دينها)، فتجديد الخطاب الدينى هو جزءٌ من الإصلاح الشامل الذى يضم ثقافة المجتمع وأسلوب الدعاة ويبشر بالاستنارة العقلية فى التعامل مع أكثر الأديان إعمالًا للعقل حتى أنه جعل التفكير فريضة إسلامية، وأنا أكتب هذه السطور بمناسبة اللقاءات المتعددة والندوات المتكررة حول قضية تجديد الخطاب الدينى لذلك يحسن أن نورد بعض الملاحظات:
أولًا: إن الخطاب الدينى مسألة معقدة فى كل الديانات تقريبًا لأنه يتصل بأسلوب الدعوة وطريقة الطرح للمفاهيم الروحية والأخلاقية بل والمعاملات الإنسانية التى يطرحها كل دين سماوى أو حتى أرضى لأن الأمر يتصل بمكونات ذلك الخطاب سواء أكانت نقلية أو عقلية كما أن الخطاب يختلف من عصر إلى عصر ومن شريحة اجتماعية إلى أخرى وليس يعنى ذلك مساسًا بثوابت الدين ولكنها اللغة والأسلوب اللذان يختلفان وفقًا لظروف الزمان والمكان.
ثانيًا: إن الأساليب العصرية فى التخاطب واستخدام نتائج التطور العلمى فى وسائل الاتصال تعنى هى الأخرى إمكانية تقديم صورة الإسلام الصحيح بمنطق يقوم على تنقية ذلك الخطاب من كل الشوائب التى علقت به والآراء التى أقحمت عليه بحيث يصبح الخطاب الدينى رسالة مستنيرة تصل إلى العقول قبل القلوب وتعزز منطق الإيمان الواعى وتعتمد على المشكلات العصرية التى يواجهها المسلم حاليًا.
ثالثًا: إن الفهم المستنير لمقاصد الشريعة السمحاء يساعد على الدعوة السليمة ويفتح الطريق أمام القدرة على التمييز بين الآراء الفقهية واختيار أيسرها وأقربها، كما أن الأخذ بفقه الأولويات سوف يضع أمام الخطاب الدينى اهتمامات معاصرة تهم جمهرة المسلمين وتستقطب جموع المؤمنين.
رابعًا: إن السلوك العنيف والألفاظ الحادة والأفكار المهجورة وترديد الأحاديث المشكوك فيها تمثل كلها عوامل لإجهاض الفكر الدينى الصحيح وتشويه خطابه المتميز لذلك فإن تربية الداعية هى أهم العوامل المؤثرة فى تجديد ذلك الخطاب وهو أمر يدعو إلى مراجعة مصادر التعليم الدينى بحيث تكون متاحة لكل من يطلبها دون تفرقة أو تمييز مع إدخال أشعة الاستنارة إلى الأروقة التى تخرج فيها محمد عبده وطه حسين والأخوان عبد الرازق ومحمود شلتوت وغيرهم من الأسماء الساطعة فى سماء الدين والحياة وإعلاء النظرة العقلية والرؤية الحديثة فى كل مكونات الخطاب الدينى لأنه موجه للحياة الدنيا بهمومها قبل أن يتوجه إلى الآخرة بعذابها، فالترغيب خير من الترهيب، وخطيب الجمعة صاحب الصوت الهادئ والفكر المرتب والأولويات الواضحة هو الذى يصل إلى قلوب الناس قبل أسماعهم وإلى عقولهم قبل أبصارهم، فالدعوة تكون بالموعظة الحسنة والنغمة الهادئة والقدوة الصالحة.
خامسًا: إن تجديد الخطاب الدينى يعنى تشكيل رؤية معاصرة تحقق إمكانية الارتقاء بالمجتمع من خلال التعاليم الصحيحة للدين خصوصًا فى باب المعاملات اليومية بدلًا من اختلاطه بالسياسة ودخوله ساحة التطرف والعنف اللذين يولدان الإرهاب والذى هو بدوره يمثل صناعة الموت بينما الثقافة الدينية الصافية تدعمها مظاهر الحياة من أدب وشعر وفن هى مقومات لازمة لحياة البشر فى زماننا الذى يفتقر إلى تأكيد مبدأ المواطنة خصوصًا أننى قد سمعت ممن أثق فى قوله مرددًا مأثورة خالدة لجمال الدين الأفغانى تقول (الأوطان قبل الأديان) فقد ظهر الوطن أولًا ثم ارتقت به روح الدين لتضع البشرية على الطريق الصحيح.
سوف يظل الخطاب الدينى بتجديده أو تحديثه أو إصلاحه أو تنويره شاغلًا لنا جميعًا حتى يظهر الداعية الذى يعرف صحيح الدين، ويدرك دروب الدنيا، ولا يصرخ فى البيداء!.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47503
تاريخ النشر: 27 ديسمبر 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/570314.aspx