تذكَّرته جيدًا بمناسبة رحيله، إنه ذلك العملاق الألمانى طولاً وضخامةً، وأيضًا مكانةً، فهو عرَّاب الوحدة الألمانية، والمستشار الذى استطاع أن يُوحِّد شطرى تلك الدولة الصلبة والعنيدة، التى خاضت حربين عالميتين فى قرن واحد، وخرجت منهما بالهزيمة، وملايين الضحايا والجرحى، ولكنها فى كل مرة كانت تستعيد عافيتها بسرعة، وتسترد استقرارها، وتبنى من جديد اقتصادها. وقد جمعنى بالمستشار الألمانى ستة لقاءات تقريبًا على مدى السنوات الثمانى التىعملت خلالها سكرتيرًا للرئيس الأسبق «مبارك»، حيث كانا يلتقيان بشكل منتظم كاد يكون مرة كل عام. ولقد بهرنى فى الرجل هدوؤه الزائد، وحبُّه لمصر وحضارتها، كما نتذكر أنه هو الطرف الألمانى فى برنامج «مبارك-كول» للنهوض بالتعليم والتدريب، وقد كنا نتناول معه إفطار عمل فى الصباح الباكر أثناء الزيارة، ونكون خمسة أفراد فى القاعة الصغيرة، كل رئيس وسكرتيره السياسى، بالإضافة إلى المترجم، وقد كان ألمانيًّا من أصل فلسطينى، وأتذكر أن لقبه كان باسم «عارف»، ولقد فوجئت بالمستشار الألمانى وهو ينسى أن الإفطار للعمل فإذا به ينخرط تمامًا فى تناول الطعام إذ أخذ «فوطة» المائدة ولفَّها حول رقبته لتُغطِّى رباط العنق وكأنما هو فى «صالون حلاقة»، ثم بدأ بـ«الأومليت» فنسف الطبق بالكامل، ثم حدث ما أدهشنى كثيرًا؛ إذ أتى بطبق فارغ وبدأ يُلقى فيه بكمية كبيرة من «الكافيار»، ومثلها من الزبد، ويخلطهما معًا ويتناول ذلك بالملعقة فى سعادة بالغة، والرئيس «مبارك» ينظر إليه فى دهشة صامتًا، وأنا أقاوم الضحك الذى لا يجوز فى مثل ذلك المكان، وتمنَّيت لو أننى سألته سؤالاً يلحُّ علىَّ.. كم مترًا يحتاج إذا أراد تفصيل حُلَّة كاملة وهو بهذه الضخامة طولاً وعرضًا؟ ولكننى أشهد أن الرجل ما كاد يفرغ من ازدراد طعامه حتى يتفتَّح ذهنه ويبدو فى أعلى درجات اللياقة العقلية والمعلوماتية، ويبدأ حوارًا مع الرئيس «مبارك» فى شئون الشرق الأوسط، والصراع العربى الفلسطينى، وأوضاع الاتحاد الأوروبى، والعلاقات المصرية-الألمانية.
وكانت تمتزج لدىَّ دائمًا الدهشة والإعجاب بهذا الرجل، خصوصًا أنه عندما زار «مصر» فى بداية عهده كان أول خطاب كتبته للرئيس الأسبق هو ما ألقاه فى حفل العشاء الذى أقامه تكريمًا للمستشار الألمانى الجديد حينذاك «هيلموت كول» عام 1983.
وما أكثر النوادر التى يلاحظها المرء أحيانًا فى تصرفات بعض الزعماء، وهى تؤكد أنهم جميعًا بشر عاديون بعيدًا عن الأنظار، وأنهم يتصرفون بعفوية شديدة وتلقائية طبيعية لا زعامة فيها ولا «كاريزما»، ولا زيف!
وكان أصعب ما يقلقنى فى زيارات ألمانيا طائرات الهليكوبتر الصغيرة التى تنقلنا من مقر الإقامة فى «بون» عاصمة ألمانيا الغربية فى ذلك الوقت، وصولاً إلى مقر المستشارية، ثم البرلمان (البوندستاج)، فقد كان الطيارون الألمان يقودون الطائرة الصغيرة بخشونة وجرأة كفيلة بأن تصيب الراكب بحالة من الهلع نتيجة الاهتزاز الشديد والصعود المفاجئ والهبوط غير المتوقع.
وكانت «بون» مدينة هادئة وصغيرة نسبيًّا، وذلك قبل أن تنتقل العاصمة الألمانية الموحَّدة إلى مدينتها التاريخية «برلين» بعد هدم السور، وإتمام الوحدة بين شطرى ألمانيا، ولذلك لم أندهش عندما قرأت النعى الكبير الذى أصدرته المستشارة الألمانية الحالية «أنجيلا ميركل» عند رحيل «كول»، رغم أنها كانت من مواطنى ألمانيا الشرقية، إلا أنها تدرك أن مستشار ألمانيا الغربية هو الذى قاد مسيرة الوحدة، وأسهم برصانته وحصافته فى عودة ألمانيا الموحَّدة إلى المسرح الأوروبى والعالمى من جديد.
وما أكثر ما رأيت فى «ألمانيا» من مظاهر الإرادة الصلبة، والنظام الصارم، والحياة التى تختلف كثيرًا عن هوجاء حياتنا وعشوائية تفكيرنا، وتفهَّمت لماذا أعجب الملايين بالنمط الألمانى فى التعليم، والعلاج، ومظاهر الحياة المختلفة، ولعل ذلك يفسر سقوط ألمانيا ثم قيامها، بل وصعودها مرتين بعد الحربين العالميتين فى القرن الماضى.
رحم الله «هيلموت كول» وجلساته اللطيفة، وإفطاره الممتع، لعله يلتهم بعضًا منه فى أحضان القديسين فى العالم الآخر.
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 234
تاريخ النشر: 11 يوليو 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d9%87%d9%8a%d9%84%d9%85%d9%88%d8%aa-%d9%83%d9%88%d9%84-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%a7%d9%81%d9%8a%d8%a7%d8%b1-%d8%a8%d8%a7%d9%84%d8%b2%d8%a8%d8%af/