بعد عودة العلاقات العربية-المصرية، وانتقال «جامعة الدول العربية» إلى مقرِّها الأصلى فى «القاهرة» وفقًا لميثاقها، رأى الرئيس الأسبق «مبارك» القيام بجولة فى دول الخليج لموقفها الداعم لعودة «مصر» إلى قيادة وريادة أُمَّتها العربية، وقرَّر أن نبدأ الجولة بـ«المملكة العربية السعودية» لأداء العُمرة، ثم التوجُّه إلى دول الخليج الخمس الباقية، ثم نختتم الزيارة بـ«المملكة العربية السعودية»، ولكن فى زيارة رسمية خلافًا لتلك التى بدأنا بها، وكانت زيارة دينية.
ولقد كان خادم الحرمين الشريفين الملك «فهد بن عبدالعزيز» يحمل إعزازًا لـ«مصر» ودورها وتاريخها فقرر أن تُفتح «الكعبة المشرفة» للرئيس المصرى ومرافقيه للدخول تكريمًا له واحتفاءً بعودة «مصر» إلى الحضن العربى، وبالفعل أدَّينا مراسم العمرة كاملة ثم دخلنا الكعبة التى فتحت أبوابها للرئيس الأسبق «مبارك» ومَنْ معه وكنت منهم، ولاحظت أن المبنى من الداخل رخاميًّا متواضعًا نسبيًا لا يخلو من بعض الرطوبة فضلاً عن الإضاءة الخافتة للغاية، وشعرت ومَنْ معى بجلال الموقف ورهبة المكان وبدأنا نؤدى الصلاة فى أركان الكعبة الأربعة؛ لأن ذلك هو المكان الوحيد الذى يمكن أن نفعل فيه ذلك فنحن داخل موقع قبلة المسلمين « فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا»، ثم حدث موقف نادر يعكس فلسفة الإسلام العظيم ومنطق المساواة الذى يسود فى شريعته بين الناس؛ إذ أدَّى الرئيس الأسبق «مبارك» الصلاة فى أحد الأركان، ثم اتجه إلى الركن الثانى فوجد أن الحاج «علوانى» -سفرجى منزل الرئيس- يؤدِّى الصلاة فانتظر الرئيس واقفًا لبضع دقائق حتى فرغ «علوانى» من صلاته، ثم بدأ يؤدِّى الصلاة مكانه منتقلاً من ركن إلى ركن فى تلك البقعة شديدة القداسة والاحترام، ولقد عنَّ لى أن أتفلسف قليلاً فقلت للرئيس: «هذه هى سماحة الإسلام وبساطته أن تقف منتظرًا حتى يؤدِّى واحد ممن يعملون فى منزلك صلاته دون أن يترك مكانه؛ لأنه بين يدى مَنْ هو أعظم من الجميع، وهو الله سبحانه وتعالى وفى أطهر بقاع الأرض»، فقال لى: «هل ترى هذا وقتًا مناسبًا للفلسفة والتنظير؟!»، وابتسمنا فى خشوع لجلال المكان وروعته، وتذكرت لحظتها أن هذه هى الكعبة التى بناها إبراهيم أبو الأنبياء «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»، فهو البيت الذى جعله الله مَثَابَةً للنَّاسِ وأمْنًا، والذى تلتقى عنده أنظار أكثر من مليار مسلم فى أنحاء الأرض، وقد خرجنا من البيت العتيق إلى «المدينة المنورة» لزيارة قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وانخرط الكثيرون فى البكاء بسبب الجو الروحى الذى يحيط بالمكان ويتوِّج قبر نبى الإسلام بهالة من الاحترام والخشوغ، وقد سألنى مصور الرئاسة الراحل فاروق إبراهيم: «لماذا لا تبكى أيضًا يا دكتور مثل الآخرين؟» فقلت له: «إنَّ كلَّ مَنْ يبكى يتذكر ذنوبه وهى كثيرة فالدموع على قَدْر الذنوب!»، وينطوى ذلك الردُّ على دعابة رأيت أن أسجلها فى ذلك الموقف العظيم، مع أننى كنت من أكثرهم رهبةً للمكان وإحساسًا بعظمة المناسبة، وبعدما تركنا قبر النبى -صلى الله عليه وسلم- انخرط كلٌّ مِنَّا فى حياته، وانصرف بعضنا إلى مشتروات عاجلة والبعض الآخر لتحضير بقية الرحلة التى بدأناها بـ«مسقط»، ثم «أبوظبى»، ثم «المنامة»، ثم «الدوحة»، ثم «الكويت»، للوصول إلى بقية الزيارة فى «المملكة العربية السعودية»، ولابد أن أشيد هنا بالحفاوة البالغة التى قوبلت بها «مصر» -رئيسًا ووفدًا وشعبًا- فى ذلك الوقت، وقد كان ذلك بالمناسبة قبل مشاركة «مصر» فى حرب «تحرير الكويت» بأكثر من عام؛ بما يعنى أن العلاقات المصرية-الخليجية ذات بُعد عميق يضرب بجذوره فى التاريخ البعيد، والذى يعنينى من مسار زيارتنا الأولى لـ«المملكة العربية السعودية» هو أن أضيف أن مراسم العمرة قد مضت بشكل متميز قاد فيها الإعلامى الراحل «أحمد فراج» الدعاء لـ«مصر»، والرئيس «مبارك» يردِّد وراءه وبقية الوفد بغير استثناء، وقد كان سفيرنا فى ذلك الوقت لدى المملكة هو السفير المرموق «سيد المصرى» الذى أصبح فيما بعد أمينًا مساعدًا لمنظمة التعاون الإسلامى، وهو سليل عائلة عريقة فى «صعيد مصر»، وقد انصرف لأداء العمرة متناسيًا وجود الرئيس والوفد، واستغرق فى الطواف والسعى وكأنه وحده؛ لأنه رجل شديد الإيمان والتديُّن، وقد ذكرت فى مقال سابق أنه جاء ذات مرة إلى موعد مع الرئيس متأخرًا بضع دقائق لأنه حرص على أداء «صلاة الظهر» قبل الوصول إلى رئاسة الجمهورية فى مقرِّها فى «قصر الاتحادية» بـ«مصر الجديدة»؛ إذ لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق.. إنها زيارة لا تُنسى لكعبة المسلمين وبيت «إبراهيم» الذى نطوف حوله حجيجًا ومعتمرين!
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 235
تاريخ النشر: 18 يوليو 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%84%d8%a7%d8%a9-%d8%af%d8%a7%d8%ae%d9%84-%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%b9%d8%a8%d8%a9-%d9%81%d9%89-%d9%83%d9%84-%d8%a7%d8%aa%d9%91%d9%90%d8%ac%d8%a7%d9%87/