عشت فى «الهند» أربع سنوات تعلمت فيها ما يعادل أربعين عامًا من عمرى، أُمَّة كبيرة وشعب عريق، حضارة متميزة، ديانات ولغات وثقافات، بل وقوميات متعددة ولكن يربط بينها رابط أساسى هو الشعور المشترك بضرورة الانضواء تحت دولة فيدرالية واحدة، وقد بهرنى الهنود بصبرهم الشديد وفلسفتهم العميقة وقدرتهم على امتصاص الألم ونسيان الأحزان، فضلاً عن الواقعية الشديدة والقدرة الفائقة على تحصيل المعرفة والانخراط فى العلم، ولقد عجبت أننا كنا نقول على سبيل السخرية: «أنا لست هنديًّا» لإبعاد تهمة السذاجة عن الذات، وهى عبارة مجافية للحقيقة وتنافى الواقع تمامًا؛ بل إننى أقول: ليتنا كنا هنودًا لكى ندرك أهمية العقل والتفكير «البراجماتى» والموازنة السليمة بين النظرية والتطبيق، وبين الخيال والواقع، لقد أصبحت «الهند» دولة كبرى لأنها دولة نووية ودولة دراسات الفضاء والصواريخ بعيدة المدى، وهى واحدة من الدول العشر الصناعية الكبرى، وهى دولة الاكتفاء الذاتى فى الحبوب الغذائية، واضعين فى الاعتبار مسئولية الحكم فى «نيودلهى» عن مئات الملايين من الهنود الذين تصل أعدادهم إلى مليار ومائتى مليون نسمة، فضلاً عن أن «الهند» هى أكبر ديمقراطية فى العالم المعاصر حيث يتجه أكثر من سبعمائة إلى ثمانمائة مليون مواطن هندى إلى صناديق الاقتراع على امتداد ثلاثة أشهر للإدلاء بأصواتهم فى الانتخابات البرلمانية والمحلية.
كنت شخصيًّا أتجنب الخروج فى ذلك اليوم لأننى كنت متأكدًا أن مَنْ يعملون فى خدمة أسرتى فى المنزل سوف يصفون حساباتهم الشخصية معى بإلقاء الألوان التى لا تزول على ما أرتديه
لقد كسر الهنود حاجز التخلف وعاشوا بطريقتهم، لهم فنونهم المتميزة ورقصاتهم الرائعة، كما أن «بوليوود» أصبحت تنافس «هوليوود» فى صناعة السينما، ولا عجب فهى «هند رابندرانت طاغور» الحائز على جائزة نوبل فى الأدب عام 1914، و«هند المهاتما غاندى» صاحب فلسفة المقاومة السلبية ورجل «آسيا» الأول فى القرن العشرين، و«هند جواهر لال نهرو» الذى وضع أسس الدولة الحديثة وحكومتها العصرية، وحدد اختصاصات المجلس الأعلى للتخطيط؛ حتى أن رجال الثورة المصرية بقيادة «عبدالناصر» خرجوا معه فى نزهة نيلية أثناء زيارته لـ«القاهرة» فى محاولة للفهم والاستنارة ونقل الخبرة، و«الهند» و«مصر» مرتبطتان تاريخيًّا بصورة ملحوظة؛ فـ«سعد زغلول» و«النحاس» عرفا «غاندى»، ورحَّب به أمير الشعراء «أحمد شوقى» -عند مرور الزعيم الهندى بـ«قناة السويس» فى طريقه إلى مفاوضات المائدة المستديرة فى «لندن»- قائلاً: «سلام النيل يا (غاندى) وهذا الزهر من عندى».
ونظرًا لعلاقتى الطويلة بأستاذى الدكتور «بطرس بطرس غالى» الذى كان وزيرًا للدولة للشئون الخارجية؛ فبعد عودتى من «لندن» حاملاً الدكتوراه صمَّمعلى إيفادى إلى بعثتنا فى «نيودلهى»، ولم أكن راضيًا بل كنت غاضبًا، وقد قال لى يومها عبارة لا أنساها: «أنت ابنى والأب لا يختار لابنه إلا ما يفيده فى مستقبل أيامه»، وأعترف أن الرجل كان صادقًا وحصيفًا، ولم أندم يومًا ما على عملى بـ«الهند»، بل خلصت منها بحصيلة لا تنتهى أبدًا من المعارفوالمواقف والمعلومات والدراسات وفهم السلوك البشرى وطبائع الطوائف وتجمُّع الأقليات، واكتشفت أن «الهند» دولة برلمانية يتبوأ فيها منصب رئاسة الدولة مسلمون لا ينتمون إلى الأغلبية من سكان البلاد بعد تقسيم شبه القارة الهندية، وأتذكر الآن أن الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» قد عقد اجتماعًا معنا -فى الفندق الذى يقيم فيه فى «نيودلهى»- حين حضر قمة عدم الانحياز عام 1983، وكان ذلك قبل مغادرتى العاصمة الهندية بأسابيع قليلة، وقدَّمنى إليه الراحل السفير «أسامة الباز»، وكان الهنود فى ذلك الوقت يحتفلون بـ«عيد الألوان»، وهو يوم للحرية المطلقة بحيث يستطيع واحد من المنبوذين أن يُلقى ألوانًا وأصباغًا على حلة أحد المهراجات، وقد سألنى الرئيس «مبارك» عن مغزى هذا العبث -من وجهة نظره- فقلت له: «إنه عيد الألوان الذى يؤكد معانى الديمقراطية ومفاهيم المساواة دون تمييز بسبب العرق أو اللون أو الدين أو المستوى الاجتماعى»، وقد اكتشفت أن تلك الإجابة لا تروق الرئيس الأسبق فهو يكره التنظير فى غير موضعه ويحب التفسيرات الواضحة والمحددة ذات الطابع العملى، ومازلنا حتى الآن نشهد ذلك اليوم فى حياة «الهند» وحالة المرح التى تسود والإحساس العام لدى الطبقات الدنيا بالمساواة الكاملة ولو ليوم واحد، ولقد كنت شخصيًّا أتجنب الخروج فى ذلك اليوم لأننى كنت متأكدًا أن مَنْ يعملون فى خدمة أسرتى فى المنزل سوف يصفون حساباتهم الشخصية معى بإلقاء الألوان التى لا تزول على ما أرتديه من ملابس حتى ولو كانت متواضعة؛ فهو يوم للتنفيس عن الذات والتعبير الحقيقى عن مفهوم الحرية بمعناه الواسع، إنها «الهند» أم الديانات والثقافات واللغات التى وقفت معنا على خط واحد فى ستينات القرن الماضى، ولننظر الآن أين هم، وأين نحن!
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 236
تاريخ النشر: 24 يوليو 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%a7%d9%84%d9%87%d9%86%d9%88%d8%af-%d9%88%d8%b9%d9%8a%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%84%d9%88%d8%a7%d9%86/