أتذكر دائمًا المفكر المصرى الراحل أنور عبد الملك وكيف سيطرت على فكره لعدة عقود نظرية متميزة فى السياسة الخارجية المصرية تدفعها دائمًا نحو الشرق وتجعل الاتجاه إلى دوله خصوصًا الصين، واليابان والهند بمثابة الطريق الأمثل للعبور نحو وضع أفضل لمصر وشعبها، إنه أنور عبد الملك الذى كان يذكرنا دائمًا (بطريق الحرير) وكيفية الربط بين الشرق الأدنى والشرق الأقصى أو بين مصر والصين مرورًا بالهند واليابان وغيرهما من التجارب الآسيوية التى حققت نجاحات مشهودة حتى استحقت لقب النمور الآسيوية منذ أكثر من عقدين من الزمان، ولقد أحسن الرئيس المصرى عبد الفتاح السيسى صنعًا، إذ جذبته نفس العوامل التى دفعت بمفكرنا الراحل لكى يكتب عن الشرق والاتجاه نحوه فى كل مناسبة يتحدث فيها أو يحاضر عنها، فتلك التجارب الآسيوية الكبرى هى الأقرب إلينا والأصلح لنا، خصوصًا أننا توهمنا فى القرون الثلاثة الأخيرة أن (التحديث) يعنى بالضرورة (التغريب) ، وهذا قول سطحى تعودنا عليه بحكم الاحتكاك الحضارى المباشر مع أوروبا والغرب عمومًا دون غيرهما من أمم الشرق وشعوبها الناهضة وتجاربها الناجحة، ولعلى أبسط هنا بعض القضايا المرتبطة بهذا المحور القديم الحديث فى العلاقات الدولية المعاصرة، ونوجز ذلك فى النقاط التالية:
أولًا: إن الذى يربطنا بالشرق تاريخيًا قد يبدو أكثر ثقلًا مما ربطنا بالغرب وأضوائه الساطعة وأنواره المثيرة فالشرق بهدوئه الصامت وفلسفته العميقة هو الأقرب إلينا حضاريًا وإنسانيًا ولكن غيبة المعلومات ونقص الأخبار والتركيز الدائم على الإعلام الغربى والتكنولوجيا الأمريكية الأوروبية كل ذلك حرمنا متعة الإعجاب بتجارب لدول صديقة عبرت مراحل مشابهة لما عبرناه ومضت على ذات الطريق وواجهت نفس المصاعب، لذلك فإن تقصيرنا فى الاتجاه نحو الشرق هو تقصير ملموس ومحسوس، وكلما صحونا ــــ موسميًا ــــ فإننا ندبج المقالات ونرفع الشعارات بضرورة الاتجاه شرقًا نحو الحضارات الآسيوية الكبرى ولكن واقع الأمر يختلف عن ذلك، فنحن نتعامل مع الدنيا حولنا باعتبارنا فى جنوب أوروبا مباشرة، فالطيران إلى اليونان ساعتان وإلى إيطاليا والنمسا ثلاث ساعات وإلى لندن وباريس لا يزيد كثيرًا عن أربع ساعات، فهذا القرب الجغرافى جعلنا فى جنوب أوروبا ونطل على البحر المتوسط مثلما تطل دول أخرى هناك على شواطئه، بينما البعد الجغرافى بيننا وبين الصين - مثلًا - يعتبر عاملًا سلبيًا فى توحيد الرؤية المشتركة أو خلق انتماء حضارى واحد، فنحن وهم دول متوازية وليست متداخلة.
ثانيًا: لكن منطق التاريخ يتغلب أحيانًا على البعد الجغرافى ويضع مسارًا مختلفًا للعلاقات الدولية والإقليمية وطرائق نشوئها عبر التجارة البحرية أو التواصل الثقافى بين حضارات فى شرق آسيا وأخرى فى غربها أو فى شمال إفريقيا وشرقها لذلك فإن العلاقات المصرية ـــــ الآسيوية هى ذات أبعاد بعيدة فى أعماق التاريخ السحيق ولا شك أن الحضارات القديمة تتشابه وتستطيع أن تتعامل فيما بينها بدرجة عالية من الفهم المشترك والقدرة على التعاون نتيجة التشابه السكانى وتقارب الظروف التى مرت بكل منها.
ثالثًا: إن مصر والدول الآسيوية الكبرى خصوصًا الصين والهند تتشابه فى وجود مشكلة سكانية نسبية، فالصين تحتوى أكثر من مليار ونصف مليار نسمة، بينما الهند تعدت المليار ومائتى مليون نسمة علاوة على مستوى ثقافى يعتمد على إرث ثقيل للماضى الطويل مع ركام ضخم من التقاليد الاجتماعية والقيم الإنسانية التى قد لا توجد بالضرورة فى الغرب بنفس ثقلها وحجمها، كما أن الحلول المقترحة للمشكلات بين دول الحضارات القديمة ترتطم غالبًا بالأفكار البالغة التعقيد والقيم التى أصبحت خارج إطار العصر، لذلك فإن دخول مصر مع هذه الدول فى تعاون وثيق يجعلها فى موقع حاضن أكثر منه موقعًا طاردًا، كما أن تجارب النهضة فى تلك الدول لا تبتعد كثيرًا عما جرى فى مصر منذ عدة عقود، ولنتذكر أن الهند ومصر كانتا شريكتين فى تصنيع طائرة وأن «جواهر لال نهرو» رئيس وزراء الهند الشهير قد ذهب فى رحلة نيلية مع الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر وأعطاهم من نصائحه وقدم أفكاره حول برامج التنمية المختلفة، فلقد كانت الثورة المصرية مشدودة إلى التجارب الآسيوية الكبرى وأظنها بدأت تعود فى الأعوام الأخيرة إلى ذلك الاتجاه الذى افتقدته كثيرًا.
رابعًا: إن معدلات النمو الاقتصادى فى الصين واليابان والهند وماليزيا وربما إندونيسيا أيضًا علاوة على دول آسيوية أخرى مثل سنغافورة وتايلاند قد حققت نجاحات كبيرة على طريق التنمية، واستطاعت أن تتقدم الصفوف باعتبارها قوى صاعدة وسط الاقتصاديات العالمية المعاصرة، وإذا كانت اليابان قد أوفدت من يدرس التجربة المصرية فى أواسط القرن التاسع عشر بعد محمد على مؤسس مصر الحديثة، فإننا اليوم محتاجون إلى الاتجاه نحو هؤلاء الذين يعرفوننا جيدًا ويقبلون التعاون معنا دون شروط مجحفة أو ضغوط سياسية.
... هذه قراءة فى ملف قديم يجب أن يتجدد دائمًا وأن يظل محل عناية سلطة الحكم فى مصر خصوصًا وهى تستعيد بناء الدولة بنسق ثابت الخطى حتى إن البعض يعقد مقارنة بين ما يقوم به الرئيس عبد الفتاح السيسى فى مصر حاليًا وما أنجزه الرئيس الأمريكى الراحل دوايت إيزنهاور لبلاده بعد نهاية الحرب العالمية الثانية!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47531
تاريخ النشر: 24 يناير2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/575633.aspx