بدأتُ عملى الدبلوماسى فى مبنى القنصلية المصرية العامة فى «لندن»، وكانت تحتلُّ مبنى رائعًا فى شارع ملكى خاص فيه قصور للأميرة «مارجريت»، شقيقة الملكة، والأمير «تشارلز»، ولى عهدها، والملك «حسين»، ثم سلطان «بروناى» بعد ذلك، إلى جانب بعض نجوم السينما العالمية، وكانت الخارجية المصرية قد حصلت على ذلك المبنى من الحكومة السورية فى عملية المقاصة بتبادل المبانى بعد الانفصال عام 1961، وكان ذلك الشارع مغلقًا من الجانبين يقف على بوَّابتيه جنود من الحرس الملكى أُحيِّيهم كل صباح.
ومازلتُ أتذكَّر أننى بعدما انتهت خدمتى فى لندن بعدة سنوات، وقرَّرتُ أن أزور مبنى القنصلية فى «لندن»، وعندما كنت أدخل من إحدى بوَّابتى ذلك الشارع الخاص فوجئت بالحارس يقول لى: «كيف حالك يا مستر (فقى)»، ومازلتُ مندهشًا كيف تذكَّر ذلك الرجل اسمى بعد سنوات من مغادرتى مدينة «لندن»؟!
أعود إلى ذلك المبنى الرائع الذى استقبلت فيه شخصيات كبيرة وأنا نائب للقنصل فى أولى درجات السلك الدبلوماسى، وكان من بينهم «عبدالفتاح باشا عمرو»، السفير الأسبق لـ«مصر» فى «بريطانيا»، وبطل العالم فى الاسكواش، والذى جاء إلى القنصلية ومعه جواز سفر المملكة المصرية ويُريد استخراج جواز جديد مع احتفاظه بالقديم، وقد فعلت له ما أراد وأكرمته بما يليق بمكانته وتاريخه، فلقد كان آخر سفير لـ«مصر الملكية» فى «لندن»، وعندما قامت ثورة يوليو 1952 فضَّل البقاء فى «بريطانيا» وسكن شارعًا صغيرًا جرت تسميته «Egypt lane» تكريمًا لذلك البطل الرياضى العالمى فى منطقة بين مدينتى «لندن» و«أكسفورد».
وقد كان من عادتنا فى القنصلية وجود «شمَّاعات» فى مدخل المبنى، حيث يُعلِّق عليها الزائرون معاطفهم أو قُبَّعاتهم أو مظلاتهم، وكان سُعاة القنصلية يستأثرون غالبًا بنصيب وافر من تلك الأشياء التى ينسى بعضها أصحابها ولا يعودون إليها، وقد لا يتذكرون أين تركوها ونحن لا نعرف من هم أصحابها.
وذات صباح جئت إلى القنصلية وتركت معطفى على إحدى تلك «الشمَّاعات»، وقررت أن أتركه لعدة أيام؛ لأن الجو بدأ يتحسن وموجة دفء طارئة قد دخلت على السواحل الإنجليزية وأشعرتنا بحرارة الجو بعد شتاء طويل، وفى إحدى أمسيات ذلك الأسبوع، وبينما «عبدالعزيز» سفرجى القنصلية، يقوم بالخدمة على المائدة لفت نظرى أنه يلبس معطفًا أنيقًا، فتأمُّلته، فإذا هو معطفى الشخصى الذى تركته منذ أيام ونسيت استعادته، فسألته: من أين حصلت على هذا المعطف، فقال لى إنه لاحظ وجوده عدة أيام على «المشجب» فى مدخل السفارة، ويبدو أن أحد الزوَّار قد تركه ولم يعد إليه، فقلت له: لعنة الله عليك، إنه معطفى الشخصى، فأسقط فى يده وحاول خلعه فقلت له: لا، لن أسترده بعد أن ارتديته أنت، وهو حلال عليك.
وتجرُّنى قصة هذا المعطف إلى وجودنا فى صحبة الرئيس الأسبق «مبارك» فى قصر «المارينيه» -وهو قصر الإقامة المخصص لضيوف قصر «الإليزيه»- وقد دخل الدكتور «عصمت عبدالمجيد» لمقابلة الرئيس «مبارك» فى جناحه، وخرج يبحث عن معطفه، فوجد معطفًا صغيرًا لا يصلح له على الإطلاق؛ إذ يبدو أن المعاطف قد اختلفت، واكتشف «د. عصمت عبدالمجيد»، رحمه الله، وقد كان نائبًا لرئيس الوزراء ووزيرًا للخارجية، أن المعطف الوحيد الموجود على شمَّاعة المدخل هو ذلك المعطف الصغير الذى لا يتناسب مع حجمه، وإن كان من نفس لون معطفه الأصلى.
ولقد انزعج «د. عصمت» كثيرًا لفقدان معطفه، وتساءل عمَّن أخذه، فقيل له إن الضيف الذى سبقه مباشرةً كان هو السيد «يوسف بن علوى»، وزير خارجية «عُمان»، وأن هذا المعطف المتروك قد يكون خاصًا به، وأنه على ما يبدو قد أخذ على سبيل الخطأ معطف «د. عصمت عبدالمجيد»، وفوجئنا ونحن نُبدى الدهشة بمندوب من وزير خارجية «عُمان» يدخل وهو يحمل المعطف الآخر الخاص بدكتور «عصمت عبدالمجيد» ويتساءل عن معطف وزيره، وجرى فى الحال تبادل المعطفين مع ضحكات ساخرة من الجميع، وعادت لوجه «د. عصمت عبدالمجيد» ابتسامته المُعتادة بعد دقائق من الضيق، خصوصًا فى ظل الجو البارد للعاصمة الفرنسية حينذاك.
وما أكثر ما أدَّى اختلاط المعاطف لمفارقات فى مناسبات مختلفة؛ لذلك جرى ابتداع وجود أرقام لكل معطف يحمل نسخة منها صاحبه طوال المناسبة، فإذا عاد إليه تعرَّف عليه دون أن ندخل فى فوضى المعاطف مرة أخرى!
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 ايام العدد 237
تاريخ النشر: 3 أغسطس 2017
رابط المقال: https://www.7-ayam.com/%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b9%d8%b7%d9%81-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%81%d9%82%d9%88%d8%af//