يوم افتتاح الأوبرا المصرية كان الفنان فاروق حسنى وزيرًا جديدًا للثقافة، ولم يمضِ فى موقعه أكثر من عام، وقد شرح فى مجلس الوزراء -بحضور الرئيس الأسبق «مبارك»- مراسم افتتاح الأوبرا التى بناها اليابانيون بعد الأوبرا المصرية العريقة التى اُحترقت خلف تمثال «إبراهيم باشا»، فى وقت جرى فيه العبث بالتراث المصرى، فاحترقت أيضًا أجزاء من مسجد «محمد على» فى «القلعة»، وجرت عمليات سطو غير مسبوقة على كثير من متاحفنا؛ خصوصًا الفرعونية والإسلامية والقبطية، وقد أدركنا دائمًا أن الثقافة رصيد كبير للحضارات والأمم والشعوب.
كان شرح الوزير فاروق حسنى رائعًا، ويَنُمُّ عن إلمام دقيق بفروع الثقافة المختلفة وفهم عميق لدلالة إعادة بناء الأوبرا فى «وسط القاهرة» من جديد، وقد بهر الوزير الحاضرين بعرضه حتى أننى قلتُ له يومها: «اليوم هو يوم تعيينك الحقيقى وزيرًا لثقافة مصر»، وفى ذلك اليوم وجهت الدولة المصرية دعوات لعدد من الشخصيات العربية والأجنبية لحضور حفل الافتتاح، وكان الرئيس الأسبق «مبارك» يجلس فى المقصورة الرئيسية، وعلى يمينه رئيس الوفد العراقى القادم للمشاركة فى الاحتفال، وهو نائب رئيس الجمهورية العراقية الكردى، وقد كان اسمه على ما أذكر «طه معروف»، وجاء الحفل مجاملةً للثقافة اليابانية، على اعتبار أن دولة اليابان هى التى تكفلت ببناء الأوبرا الجديدة، حتى إنهم جعلوا المقاعد صغيرة بحجم المواطن اليابانى الذى يقلُّ كثيرًا عن الأحجام المصرية المعتادة، وقد أتحفتنا إدارة الأوبرا يومها بعمل من التراث الشعبى اليابانى يُسمَّى «كابوكى» لم يتذوقه معظم المشاهدين، ولكن الجميع تابعوه باحترام وعرفان بالجميل لبناء المركز الثقافى المصرى الكبير، و«كابوكى» -بالمناسبة- تُشبه «السيرة الهلالية» فى تراث الثقافة المصرية.
فى الاستراحة -وقد كنتُ أجلس خلف الرئيس- توجَّه إليه المسئول العراقى الكبير قائلاً: «يا فخامة الرئيس إن بناء الأوبرا من جوانبها المادية ليس عَصِيًّا على أى عاصمة خليجية، فهناك حاكم عربى جعل مقابض قصره من الذهب الخالص، وليس صعبًا عليه أو على غيره أن يُشيِّد مبنى لأوبرا عصرية بكل تقنياتها الفنية»، فنظر إليه الرئيس الأسبق مندهشًا، ولكن نائب الرئيس العراقى واصل حديثه قائلاً: «ولكن المشكلة يا فخامة الرئيس هى أنه لتشغيل أىٍّ من هذه الأوبرات المُقترحة فإن على أصحابها دعوة الشعراء والأدباء والفنانين من مصر»، وكدتُ أنطق من خلفهما قائلاً: «والمتفرجين أيضًا»، فابتسم الرئيس الأسبق «مبارك» شاكرًا للمبعوث العراقى مجاملته الحقيقية، والذى يعنينى هنا التأكيد على أن الهيكل العام للأبنية الثقافية أمر ميسور، ولكن المعضلة الحقيقية مسألة التشغيل الذى يرتقى إلى مستوى الأوبرا، وهى أم الفنون، لأنها جسر بين المسرح والغناء، وهما أقدم الفنون على الإطلاق، فالبناء يشبه «الهاردوير»، ولكن تبقى مشكلة «السوفت وير»، فالمضمون هو الجوهر الحقيقى للبناء الثقافى.
لقد تأكد لى فى ذلك اليوم قيمة الثقافة المصرية، ودورها الفاعل كمركز إشعاع عبر التاريخ يصدر منها ويضىء حولها، ويعطيها المكانة التى تألقت بها دائمًا، ولقد ظلت الأوبراالمصرية تعمل بغير توقُّف، فهى بورصة الثقافة؛ فمثلما تتوقف البورصة المالية فى أوقات الاضطراب وتنهار فى لحظات الضعف فإن الأوبرا المصرية أُوقفت لفترة محدودة فى ظل أَتُون أعمال العنف بعد ثورة 25 يناير، ولكنها استعادت دورها بسرعة ووقفت على قدميها، وكان مُبهرًا أن تُقدِّم أعمالاً تشدُّ الناس فى وقت تَعُجُّ فيه الشوارع بالجماهير الصاخبة والشغب والمظاهرات، وكلما أُتيحت لى فرصة لزيارة الأوبرا المصرية شعرت وكأننا فى قدس أقداس الفن المصرى المعاصر، وأدركت معها أن بناء الخديو إسماعيل الأوبرا المصرية لم يكن عبثًا ولا ترفًا، ولكنه كان يضع بالفعل حجر الأساس للدولة المصرية الحديثة، فالفنون غذاء العقل والروح معًا، ولا جدال فى أنها الخصم العنيد للإرهاب الأسود، وقلعة الدفاع عن الإنسان وحريته فى نهاية يومه، وسوف تظل الأوبرا المصرية مركز استقطاب عالميًّا وإقليميًّا يسعى إليها الجميع بكل التقدير والعرفان لأنها واحدة من مُعطيات عصر النهضة المصرية فى القرن التاسع عشر، وهى أيضًا رمز لتجدُّد الحياة الثقافية على أرض مصر الطيبة.
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 ايام العدد 238
تاريخ النشر: 9 أغسطس 2017
رابط المقال: https://www.7-ayam.com/%d9%8a%d9%88%d9%85-%d8%a7%d9%81%d8%aa%d8%aa%d8%a7%d8%ad-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%88%d8%a8%d8%b1%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b5%d8%b1%d9%8a%d8%a9/