وجَّهت ملكة بريطانيا دعوةً للرئيس الأسبق «مبارك» بـ«زيارة دولة»، وهى زيارة وحيدة كل عام تُقام لها مراسم كبيرة وترتيبات واسعة، وتستقلُّ فيها الملكة عربةً تجرُّها الخيول من محطة «فيكتوريا» إلى قصر «باكنجهام»، ويحتشد الناس على الجانبين احتفاءً بذلك الموكب الملكى، حيث يجلس الضيف عن يمين الملكة، وتُحيِّى هى الجماهير التى تصطفُّ فى الشوارع لمُلاحقة مظاهر «الأُبَّهة» فى ظل المراسم الملكية المُعتادة.
وفى ذلك العام طلبت أجهزة الأمن المصرية إلغاء ذلك الموكب؛ لأننا كنا فى أعقاب «حرب الخليج»، وتحرير «الكويت»، وكان الرئيس «مبارك» مُستهدفًا من جانب بعض العناصر المؤيدة للرئيس الراحل «صدام حسين».
وقد استاء البريطانيون من ذلك، وضيَّقوا على إعلام الزيارة كردِّ فعلٍ لما جرى، وتقرَّر أن تستقبل الملكة الرئيس المصرى القادم فى 23 يوليو 1991 على باب القصر، وتصطحبه هو والسيدة قرينته إلى الجناح المُخصَّص لإقامتهما.
والمُعتاد فى هذه الحالات أن يتسلَّم الحرس الجمهورى المصرى ذلك الجناح قبل وصول الرئيس بأربعٍ وعشرين ساعة على الأقل، حيث يقوم قسم كشف المُفرقعات التابع للحرس الجمهورى بتفتيش الجناح تفتيشًا كاملاً وإغلاقه وحراسته حتى يصل الضيف المصرى الكبير.
وقد كان يقود مجموعة كشف المفرقعات ضابط من الحرس الجمهورى برتبة «عقيد»، وكان يمضى هو والخبراء معه أكثر من ساعتين فى تفتيش الجناح تفتيشًا دقيقًا والكشف بالأجهزة الحديثة عن احتمالات وجود مفرقعات أو أى مواد تخريبية داخله.
وقد فعل هذا الضابط ومعاونوه ذلك الكشف الذى يستغرق مجهودًا ووقتًا، وبعد أن انتهوا من عملية التفتيش أغلقوا الباب وهم لا يُدركون أن هناك بابًا خلفيًّا غير مطروق تدخل منه الأميرة «مارجريت»، شقيقة الملكة، لتذهب إلى حمَّام السباحة المُلحق بالجناح، فيضطر الضباط إلى إعادة عملية الكشف عن المُفرقعات أو المواد الضارة من جديد.
وقد تكرَّر الأمر مرتين فى ذلك اليوم، ووقف العقيد المصرى على الباب الرئيسى للجناح مستاءً وضَجِرًا ممَّا يحدث، فرأى سيدةً نحيلةً تمرُّ من أمامه وهى تلبس رداءً أبيضَ بسيطًا وحذاءً من الكاوتشوك، فتصوَّر أنها إحدى مُديرات القصر، فقال لها بإنجليزية متلعثمة: «لو سمحتِ إن ما حدث أمرٌ مُتعب للغاية، فالأميرة تدخل الجناح من باب خلفى ونضطر إلىإعادة التفتيش»، فابتسمت له تلك السيدة فى هدوءٍ، وحاولت أن تفهم ما يقول من خلال لغته الإنجليزية المحدودة، ثم قالت له: «سوف أعود إليك بعد دقائق».
وكان على الجانب الآخر من بهو القصر حجرة لسكرتارية الرئيس يقف فيها العميد «أبوالوفا رشوان» ومساعدوه، وكانوا يدركون أن التى مرَّت أمامهم، والتى تحدَّث معها ضابط المُفرقعات ليست مشرفة بالمنزل، ولكنها الملكة «إليزابيث الثانية»، ملكة بريطانيا، فقالوا له بصوت مسموع: «إنها الملكة.. إنها الملكة»، وعندما أدرك الضابط ذلك جلس على الأرض وهو مُنهار تقريبًا، وما هى إلا دقائق وعادت تلك السيدة إليه وهو لا يرفع رأسه نحوها، ولكن يقول فقط: «نعم يا جلالة الملكة.. نعم يا جلالة الملكة»، ويكررها بلا وعى، فقالت له الملكة: «لقد أصدرت تعليمات بألا يُفتح الجناح من أى جانب، ولن تحتاج إلى إعادة التفتيش مرةً أخرى»، وهو يُكرِّر كلمة: «شكرًا يا جلالة الملكة».
وعندما علمتُ بالقصة سردتها على السيد الرئيس بعد وصوله بيوم فى إحدى الأمسيات، باعتبارها من النوادر الطريفة، وقد ضحك لها الرئيس كثيرًا، وعندما أبلغوا الضابط أننى أبلغت الرئيس بما حدث قال: «إن الرئيس لن يتَّخذ ضدى أى جزاء؛ لأنه يتسامح فى المسائل الصغيرة، ولكن أرجو ألا تصل القصة إلى رئيس الديوان، فهو صارم، ولا يقبل الأخطاءفى العمل حتى ولو كانت بغير سوء نية».
وقد مرَّت الزيارة بسلام، خصوصًا أن «زيارة الدولة» هى أعلى درجات الزيارات الرسمية، ولها بروتوكول صارم، ومراسم محددة، ولأننا دولة اختصرت إلى حدٍّ كبير مظاهر واحتفاليات المراسم الرئاسية، فإننا نشعر بفارق كبير أمام بعض الدول، خصوصًا الملكية منها، حيث الثراء البروتوكولى، والحرص الشديد على المراسم، فما بالك إذا كانت تلك الدولة العريقة هى الإمبراطورية التى كانت لا تغرب عنها الشمس.. بريطانيا العُظمى؟!
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 ايام العدد 239
تاريخ النشر: 16 أغسطس 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d9%85%d9%84%d9%83%d8%a9-%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d8%b7%d8%a7%d9%86%d9%8a%d8%a7-%d9%88%d8%b6%d8%a7%d8%a8%d8%b7-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%8f%d9%81%d8%b1%d9%82%d8%b9%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b5%d8%b1/