تهتز مشاعر المصريين وهم يرددون النشيد الوطنى أو يستمعون إلى السلام الجمهورى، ذلك أن مثل هذه الشكليات تتجاوز الأمر لتصبح جزءًا لا يتجزأ من التكوين النفسى للأجيال المتعاقبة، ومازلت أتأثر شخصيًا بالسلام الوطنى فى العهدين الملكى والجمهورى على السواء، بل وأطرب مع الأناشيد الوطنية منذ ثورة عام 1919 وحتى اليوم، ذلك أننى أرى فيها تجسيدًا حيًا لروح الأمة وتعبيرًا صادقًا عن كيانها الباقى وضميرها الحى، ولعلى أقول صراحة إننى لم أكن سعيدًا بظاهرة تغيير أشكال العلم المصرى فى العقود الأخيرة، ومازلت أتذكر ذلك العلم الأخضر ذى الهلال والنجوم الثلاثة الذى كان يرفرف فى فناء مدرستنا الابتدائية والإعدادية، وعندما طالب البعض بالعودة إليه قيل لهم: إن العلم ذى الألوان الثلاثة الأحمر والأبيض والأسود قد اقترن فى تاريخنا بأهم حدث معاصر وهو نصر عام 1973 وعبور الجيش المصرى الباسل لقناة السويس، مطهرًا الضفة الشرقية من الوجود الغاصب، ومزيلًا للعدوان الذى عانت منه الأرض المصرية لعدة سنوات، ولكننى أعترف أننى كلما رأيت العلم القديم شعرت بنوع من الحنين الذى يشدنا جميعًا إلى أزمنة مضت وعصور ولّت وتلك طبيعة بشرية، فقد كتب عبد الله بن المقفع قبل أكثر من ألف عام متباكيًا على الفضيلة التى رحلت والأخلاق التى ذهبت والقيم التى زالت، فالحنين إلى الماضى ظاهرة إنسانية معروفة منذ القدم، ولكن علم الوحدة الوطنية الذى رفعه ثوار عام 1919 يجب أن يظل فى ذاكرتنا تلخيصًا لأحداث تلك الثورة الشعبية التى بدأت من الشارع والحارة حتى وصلت إلى قمة الحياة السياسية فى عصرها، وكانت تعبيرًا حيًا عن تحالف قوى الشعب الحقيقية وتمثيل إرادته الواعية فى غمار تلك الأحداث الساخنة التى ولدت من رحمها الليبرالية المصرية فى فترة ما بين الثورتين 1919 و1952، أما عن السلام الجمهورى فحدث ولا حرج، لقد بدأناه بأغانٍ صاخبة تعبر عن روح القتال وتجسد حالة الحرب وظل الأمر كذلك حتى انتقلنا إلى مرحلة مختلفة، فإذا السلام الجمهورى ينتقل معها، وكما أن العلم المصرى قد تغير بعد الوحدة المصرية السورية - ولم يكن ذلك مطلوبًا - فكان يمكن أن يظل هو علم الإقليم الجنوبى حتى الانفصال الذى وقع بعد سنوات قليلة من إعلان الوحدة، فإن الأمر كان يمكن تطبيقه على السلام الوطنى أيضًا، وأنا لا أجادل فى روعة ما تغنى به سيد درويش (بلادى.. بلادى لكى حبى وفؤادى)، ولكننى أتذكر أيضًا أن هناك أناشيد رائعة فى تاريخنا ومنها (مصر التى فى خاطرى)، ومنها أيضًا (وقف الخلق ينظرون جميعًا)، ومنها كذلك نشيد الجهاد بالتوظيف الموسيقى الرائع الذى عرفناه لفنان الشعب محمد عبد الوهاب، وهى كلها إيقاعات تهز الوجدان الوطنى وتحرك المشاعر المصرية وتحيى فينا ما لا يجب أن يموت أبدًا، وهو الإحساس بالوطن والارتباط بترابه، والمرء يفزع دائمًا للدساتير المتتالية للبلد الواحد، بينما الأناشيد الرسمية لدولة لم تتغير والسلام الجمهورى يظل مستقرًا فيجرى غرسه فى وجدان الأجيال الجديدة والشباب الصاعد منذ الطفولة المبكرة، إننى أتأمل أحيانًا النشيد الوطنى لبعض الدول المتقدمة فأجده قطعة موسيقية راقية من إحدى السيمفونيات الكبرى لعظام الموسيقيين فى التاريخ، وفى حالات أخرى أستمع إلى مقطوعة موسيقية هادئة تسمو بالنفس وترقى بالوجدان اختارتها شعوبها لكى تكون تعبيرًا عن شخصيتها ورمزًا لوجودها، وأنا أظن أن هذه القضايا ليست شكلية، ولكنها تعبر عن الروح الوطنية فى أجلى صورها، كذلك فإن التمسك باستمرار بهذه الثوابت وعدم تعريضها للتغيير - إلا لضرورة لا مفر منها - هو أمر واجب علينا حتى نستطيع تقديم الوطن بصورة ثابتة ومستقرة، خصوصًا أننا ننتمى إلى وطن هو الأعرق وإلى حضارة هى الملهمة كذلك، فإن تجليات المرحلة التى نبنى فيها دولة حديثة تقتضى منا التركيز على الجوانب المتصلة بالمشاعر والرموز المعبرة عن الذات الحقيقية لمصر والمصريين، فالعلم المصرى والنشيد الوطنى، بل والدستور الرسمى، هى أمور يجب الحذر عند المساس بها، ويجب أن تملك دائمًا أعمارًا طويلة فى تاريخنا، ويكفى أن نتذكر أن العلم الأخضر ذى الهلال والنجوم الثلاثة لايزال قابعًا فى ذاكرة من رفعوه، كما أن النشيد الوطنى مستقر فى أعماق من رددوه، ودستور عام 1923 - وفقًا لظروف عصره - لا يزال مدعاة للفخر ومبعثًا للاعتزاز، لأنه كان وثيقة تاريخية لمصر وفخرًا دائمًا للمصريين!.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1451016