يتذكر كل منا أحيانًا فترات بعينها من عمره الذي مضى ويتساءل: لو إنني عدت إلى تلك المرحلة مرة أخرى – وهذا مجرد افتراض – فهل سوف أفعل ما فعلت أم أن الأمر سوف يتغير مع الأخذ في الاعتبار هنا أن الندم الإيجابي أفضل من الندم السلبي؟ أي أن تندم على شيء قمت به ولم يحقق نتائجه المرجوه فذلك بالتأكيد أفضل من أن يكون ندمًا على شيء لم تفعله عندما كان في مقدورك ذلك فكانت النتيجة خسارة مزدوجة أولها أن الفعل لم يحدث وثانيها أن الخسارة جاءت بسببه؛ ولكن اللافت للنظر هو أن لكل مرحلة عمرية نمط في التفكير وأسلوب في الحياة، وعندما يسترجع المرء ملف حياته وشريط ذكرياته فإنه يكتشف أن حياته سلسلة من النجاحات والإخفاقات؛ من التصرفات الصائبة والأخطاء الفادحة أيضًا حتى يدرك أن الإنسان هو محصلة ذلك كله وليس في مقدور أحدنا أن يختار إيجابياته وأن يتغافل عن سلبياته، فالحياة في النهاية هي صفقة متكاملة تقوم على رؤية شاملة وينسحب ذات الأمر على الجماعات البشرية بل والدول الوطنية، فما أكثر الانتقادات التي توجه لأي نظام سياسي بعد رحيله بينما كان هناك أحيانًا قبول عام لتلك السياسات حال وجودها، فالأمر هنا يتعلق بالقدرة على ممارسة حرية التعبير وإبداء الرأي السليم في الوقت المناسب بل إنني أزعم أن الشعوب تمر بمراحل شبيهة بمراحل حياة الإنسان، ففيها طفولة ومراهقة وشباب، وفيها رجولة وشيخوخة وهرم ولكل مرحلة مذاقها والتزاماتها بحيث تبدو في النهاية وكأنها وحدة لا تتجزأ، ولنا هنا أن نضع بعض الملاحظات الجوهرية في هذا السياق:
أولًا: إن الأفراد ومثلها الجماعات تتصرف وفقًا لما أتيح لها من رؤية وما تَوفر أمامها من ضوء وقد يأتي يوم ننتقد فيه أحداث مضت بمعايير الزمن الجديد ويكون ذلك هو الظلم الفادح بعينه، فلكل وقت ظروفه ولكل أوان رموزه وشخوصه ومن العبث أن نقوّم الماضي بمقاييس الحاضر، والفرد منا يتذكر أحيانًا بعض تصرفاته في سن مبكرة قبل أن تتراكم لديه التجربة أو تتجمع عنده الخبرة فيشعر بدهشة شديدة ويتساءل كيف تصرفت بهذه الطريقة؟! وهذا أمر ينبغي أن يكون في إطاره الصحيح فالأعمار المختلفة لها أفكار متفاوتة.
ثانيًا: يستصعب البعض مسيرة الحياة في بعض مراحلها وأيضًا تتوقف الشعوب وقفات للمراجعة وتنظر أمامها في قلق مستصعبة أحيانًا إمكانية تحقيق الهدف الذي تنشده أو الحلم الذي تسعى إليه، وهنا ينبغي أن نتذكر الحكمة الصينية: (إن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة)، وعندما غادرنا مرحلة الطفولة واقتحمنا شباب العمر كان القلق يسيطر علينا تجاه المستقبل الغامض، فأنا شخصيًا تخرجت من الجامعة قبل نكسة يونيو عام 1967 بعام واحد وبدا لي وقتها - أنا وزملائي - أن الصورة قاتمة وألا أمل في المستقبل ولكن انقشعت بعد ذلك الغيوم ودخلنا في المسار الطبيعي للحياة فتحقق لنا بعض ما أردنا وتعذر علينا البعض الآخر، فالإخفاق يكمل النجاح وهما معًا يصنعان توليفة العمر وسبكية الحياة.
ثالثًا: لا ينبغي الاستهانة بكل قادم جديد، لقد استهان المصريون في بدايات حكم النحاس باشا به لأنه جاء بعد سعد زغلول، واستخفوا بالسادات لأنه جاء بعد عبد الناصر والغريب أن كلا الرجلين قد حقق نجاحات واسعة واكتسب شعبية كبيرة، ولقد كان الأمريكيون أيضًا يستصعبون مهمة الرئيس الأمريكي (ترومان) لأنه جاء بعد (روزفلت) ولكن الحياة تعطي الفرصة لكل أبنائها وتحدد لهم الإطار الذي يراهم الناس فيه فلا ينبغي الاستخفاف بكل جديد، ولندرك أن فلسفة الكون وسنة الحياة تفرض علينا أنماطًا جديدة مهما كانت الملابسات والظروف بل والمصاعب.
رابعًا: إن الحياة لا تتوقف عند شخص ولا تتجمد عند مرحلة والذين يدرسون تاريخ الأفكار يدركون بجلاء ووضوح أن الإنسان ابن الفكرة وأن الإلهام وليد التأمل ولا تكتمل الرؤية أمام صاحبها إلا إذا توفرت لديه المعرفة فهي مفتاح القرار السليم والموقف الصحيح، لقد عرفنا عبر تاريخنا كله نماذج بشرية يصعب تكرارها لأؤلئك الذين عبروا على حياتنا فترك بعضهم بصمات لا تمحى بينما لا نكاد نتذكر البعض الأخر فقد كان مرورهم عابرًا وكان ظهورهم طارئًا ولا تتواجد حفر الزمن على وجوه البشر إلا من التجارب الصعبة والخبرات الكبيرة، وإذا تأملنا تاريخ البشرية كله من منظور شامل وبفهم متكامل فسوف نكتشف أن تاريخ الإنسان في النهاية هو تاريخ الأفكار بكل ما لها وما عليها.
خامسًا: دعنا نعترف أن الأعمار والأفكار متلازمان فعندما يأتي نضوج العمر يأتي نضوج الفكر وبدون أي منهما لا أمل في المستقبل ولا ريادة للحياة، والذين يؤرخون للأحداث كما يرونها على السطح هم عابثون وكل حدث يحتاج عند تحليله إلى البحث فيما وراءه كما أن دراسة التاريخ تقتضي فهم ما يجري لربط الماضي بالحاضر والتهيؤ للمستقبل، وواهم من يظن أن ما نراه يمثل كل الحقيقة بل إن الأمر يختلف من منظور لآخر ولذلك قالوا: إن الحياة ليست فقط حقيقة ولكنها أيضًا طريقة!
إن خلاصة ما نريد أن نتحدث عنه هو أن الأفكار تختلف وفقًا للزمان والمكان وعمر الإنسان بحيث تقترن مراحل حياته - فردًا أو جماعة - بالبيئة الحاضنة والمناخ الثقافي والروح الفكرية ولذلك تلازم لدينا الارتباط – عن حق – بين الأعمار والأفكار.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 31 ديسمبر 2019.