الجيوش هى درع الشعوب وسيف الأمم، وواهم من يتصور أن الجيش هو فقط كيان رمزى تعتز به الدولة وتستعرض قوتها به فى المناسبات والاحتفاليات، فالجيش هو استثمار شعبى طويل المدى لحماية المصالح العليا للبلاد والدفاع عن حقوقها فى عالم يموج بتيارات متضاربة وأمواج عاتية تعتبر نقلة نوعية هائلة فى العلاقات الدولية المعاصرة على المستويين العالمى والإقليمى، والجيش المصرى جزء لا يتجزأ من تركيبة الدولة العصرية؛ وإذا بدأنا من عهد محمد على باشا فسوف نكتشف أن الدولة الحديثة قامت دعائمها على فكرة تكوين جيش مصرى قوى يسمح بالاستقلال النسبى عن السلطنة العثمانية ويكون نواة لدولة عصرية هى الأولى فى المنطقة، ولقد اكتشف محمد على - ذلك الحاكم الداهية - أنه كى يكون لديه جيش لابد أن يكون لديه عتاد وسلاح وذلك لا يتحقق إلا بالصناعة العسكرية الوطنية وهذا بدوره لا يتحقق إلا بوجود كوادر مصرية متعلمة جيدًا ومرتبطة بعلوم العصر فكانت البعثات المصرية إلى أوروبا والتى عادت حاملة مشاعل النهضة وأفكار التغيير، وبعدما كانت الجندية شبحًا مخيفًا فى القرى والنجوع تحولت إلى مصدر للتنوير والارتقاء، فالشباب المصرى العائد من الخدمة العسكرية يحمل معه بذور التحول نحو حياة أفضل بما اكتسبه من مهن وما حازه من مهارات، ولم يكن للجيش المصرى أن يصبح واحدًا من أكبر عشرة جيوش فى العالم إلا من خلال تلك الرحلة الطويلة والمعارك الضارية والحروب الدامية التى خاضتها مصر فى القرنين الأخيرين، ولقد شعرت بالزهو منذ عدة سنوات وأنا أرى حديثًا لوزير الدفاع الأمريكى الأسبق على شاشة قناة الجزيرة – التى لا تحمل لنا ودًا ولا تريد لنا خيرًا – فإذا به يقول بالنص: (ويبقى الجيش المصرى هو أكثر جيوش المنطقة عراقة ومهنية)، وعندما أنهيت دراستى الجامعية عام 1966 استدعيت للخدمة العسكرية فى أعقاب النكسة ضمن حملة المؤهلات العليا، الذين رأت القوات المسلحة المصرية بحق تطعيم جنودها بعشرات الألوف منهم، وأمضيت فى القوات المسلحة عدة شهور إلى أن قرر الفريق محمد فوزى إعادة الكشف الطبى على جنود المؤهلات، الذين يحملون شرف الجندية بهذا العدد الكبير وبعد أن اقتربت من نصف مدة الخدمة ما بين سلاحى الحدود والمدرعات صدر قرار طبى بعدم لياقتى للاستمرار فى الخدمة بسبب تسطح مشوه بالقدمين على حد تعبير القومسيون الطبى فى مستشفى الحلمية العسكرى، وأشهد الله أننى منذ فترة خدمتى فى القوات المسلحة - وهى قصيرة - أشعر بتقدير كبير لكل من التحق بها أو عمل فيها، فالخدمة العسكرية ليست ترفًا ولكنها جهد شاق وحياة صعبة تقوم على التضحية من أجل أهداف سامية وغايات نبيلة هى حماية الوطن والدفاع عن أرضه ومياهه، ولا يحمل شرف الجندية إلا من كان أهلًا لها وجديرًا بها، ولقد حضرت منذ عدة شهور احتفالًا كبيرًا نظمته الشؤون المعنوية للقوات المسلحة وكان من ضمن الفقرات أغنية رائعة لمطرب أردنى يقول فيها: يحكى أن.. الجيش المصرى، وعندما يستمع إليها المرء يشعر بالزهو وتتقمصه روح الكبرياء الوطنى ويدرك أن الجيش المصرى هو ابن هذا الشعب وحامل تقاليد تاريخه العريق وتضحياته الجسام؛ إنه الجيش الذى قدم لمصر أحمد عرابى ورفاقه والفريق عزيز المصرى والرؤساء نجيب وعبدالناصر والسادات ومبارك وصولًا إلى الرئيس المناضل عبدالفتاح السيسى الذى يصارع هو وشعبه كل التحديات ومحاولات التطويق والتآمر التى ترى أن الجيش المصرى هو العقبة أمامها لاختراق الدولة الوطنية المصرية المنيعة، إنه جيش قوافل الشهداء العظام فى حروبنا المتوالية والذين يرمز إليهم اسم عبدالمنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المسلحة فى أعقاب نكسة عام 1967، كذلك نتذكر رجالًا من أمثال الفريق فوزى الذى جمع شتات الجيش وأعاد تنظيم صفوفه برعاية مباشرة من الزعيم الراحل عبدالناصر حتى تمكنت القوات المسلحة المصرية من خوض حرب العبور العظيم بقيادة الرئيس الراحل أنور السادات، فتاريخ العسكرية المصرية هو تاريخ الشرف للأحياء وتاريخ المجد للشهداء، دعونى أردد مع المطرب الأردنى صاحب الحس القومى: (يحكى أن.. الجيش المصرى)، صاحب البطولات والتضحيات، جيش لم يغادر شعبه ولم ينقلب على أهله ولم يكن أبدًا طرفًا فى صراع داخلى بل ظل دائمًا ملاذًا للجميع وركيزة للوطنية المصرية، ورصيدًا للقومية العربية، وقوة نرهب بها أعداء الله والوطن.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1457295