كتب الأستاذ محمد حسنين هيكل منذ عدة سنوات معلنًا انتهاء عصر النجوم اللامعة والأسماء الضخمة في زعامات العالم بعد رحيل أسماء مثل ونستون تشرشيل وشارل ديجول ونهرو وعبد الناصر وماو تسي تونج وغيرهم؛ وأضاف المحلل السياسي الكبير أن الشارع قد بدأ يبحث عن الزعامات التي تعبر عنه مباشرة دون تاريخ سياسي طويل أو تدرج حزبي لامع، وقد صدق حدس الأستاذ هيكل وأصبحنا أمام تحول واضح في قيادات الدول المختلفة ولم تعد الكاريزما السياسية هي جواز السفر لوصول القادة وظهور الحكام بل أصبحت شعبية الحاكم نابعة من تعبيره المباشر عن الحالة الوطنية في عصره، ولقد شهدنا في السنوات الأخيرة كيف أفرزت الانتخابات الرئاسية في فرنسا وتونس والجزائر أسماء جديدة في وقتها مثل ماكرون وقيس بن سعيد وعبد الحميد تبون وقد كان الأخير رئيس وزراء ولكنه لم يكن ألمع أقرانه أو أكثرهم شعبية قبيل الانتخابات وقس على ذلك نماذج أخرى في دول مختلفة خلال العقود الأخيرة، فقد أصبحت الديمقراطية بتطورها الجديد قادرة على النبش في الصفوف الخلفية دون الاكتفاء بالصفوف الأولى وحدها كما أن الشعوب أصبحت تفضل القيادات العملية عن غيرها، فهي تبحث عن الحاكم الجاد الذي يحمل برنامجًا إصلاحيًا وليست لديه انتماءات حزبية تكبله أو ديون سياسية عليه أن يدفعها بعد الوصول إلى مقعد السلطة، ولنا هنا عدة ملاحظات:
أولًا: ظهرت مؤخرًا في العقدين الأخيرين كتابات رصينة تبشر بتطور مفهوم الديمقراطية حتى يتواكب مع روح العصر وتختفي سلبيات الديمقراطية التقليدية خصوصًا ما يتصل منها بنظام الانتخابات التي قد تأتي بنتيجة لا يوجد توافق عام عليها بسبب التفاوت في المستويات الثقافية؛ فضلًا عن احتمالات العبث الذي قد يصل إلى حد التزوير مع وجود مؤثرات جديدة تجعل الناخب يتجه أحيانًا في غير مصلحته، لذلك دأبت الكتابات الحديثة على القول بأن الديمقراطية وسيلة وليست غاية؛ فإذا ما استطعنا الوصول إلى الغاية بطريقة أفضل فلتكن تلك هي الديمقراطية بمفهومها الحديث وصورتها الجديدة، ولذلك لم يكن غريبًا أن نفاجأ بزعامات مختلفة بدءًا من دونالد ترامب في الولايات المتحدة الأمريكية مرورًا بفرنسا كما أسلفنا وصولًا إلى دول صغيرة في آسيا وإفريقيا.
ثانيًا: لم تعد الكاريزما مطلبًا في الزعامات التي تسعى إليها الشعوب بل إن الكاريزما قد تعمي الأبصار وتحجب الرؤية وتجعل الجماهير تلهث كالقطيع بلا وعي مشدودة بعواطف مؤقتة أو شعارات تدغدغ المشاعر وتستهوي القلوب، وما أكثر الدول التي عانت من كاريزما الحكام ثم دفعت بعد ذلك فاتورة غالية للتغيير والإصلاح ولم يكن الأمر سهلًا بل احتاج إلى عدة قرون إن لم يكن أكثر من ذلك، ولذلك فإن الحاكم العادي الذي يخرج من وسط الجماهير دون ضغوط أو أوهام هو ذلك الذي يستطيع أن يقود شعبه وأن يتعامل معه السواد الأعظم من الجماهير التي تسعى إلى حياة طبيعية وسلوك سياسي رشيد بعيدًا عن الصخب والضوضاء والشعارات الرنانة.
ثالثًا: اختلف أساتذة الفكر السياسي والنظم الدستورية حول تعريف مفهوم الزعامة وارتباطها بمؤسسات الحكم وهل كل رئيس هو زعيم أو أن كل زعيم هو رئيس؟ وفي رأينا أن هذه العلاقة التبادلية ليست حاكمة ولا يوجد تلازم بينهما ولذلك فقد قلت مرة: إن الرؤساء يتغيرون عندما يبدأ المحيطون بهم يتحدثون معهم بمسمى الزعيم، هنا تتحول الأمور وتتغير المواقف ونصبح أمام محاولة لصنع كاريزما قد لا تستند إلى واقع وليس لديها رصيد حقيقي من القدرات والخبرات.
رابعًا: لقد أدى التقدم التكنولوجي في وسائل الاتصال إلى انقلاب حقيقي في عملية صنع الصورة (Image Making) فقد كان الأمر مختلفًا قبل عصر التليفزيون، ولكن بعد ذلك ظهرت وسائل متقدمة للغاية جعلت العلاقة بين الحاكم والمحكوم علاقة مباشرة وأطاحت بقدر كبير من هيبة الخيال إذا جاز التعبير فلم يعد الأمر متوقفًا على ما يتصوره الآخرون حول الحاكم بقدر ما هي محاولة الاستكشاف المباشر بين الطرفين، ولقد سمح ذلك الأمر بظهور قيادات جديدة دون خلفيات قديمة والأمثلة كما قلنا ترامب وماكرون ونموذجي شمال إفريقيا مؤخرًا في تونس والجزائر.
خامسًا: لقد ادى الحراك السياسي وثورات الشارع في الدول المختلفة إلى نوع جديد من الاحتكاك الذي خرجت منه قيادات لم تكن في الحسبان، والأمر هنا يحتاج إلى الاهتمام بالبيئة الثقافية والمناخ السياسي وقدرة الآخرين على الامتزاج بكل ما هو قادم فكريًا وسياسيًا، ولذلك نلاحظ في القيادات الجديدة أنها تبدأ صفحة بيضاء في التعامل مع السياسة والحكم دون رصيد سابق وبلا حسابات حزبية أو التزامات دستورية بل إن بعضها يبدأ في ظني من الصفر ويبدأ في بناء خبراته واستكمال قدراته من خلال الممارسة الفعلية ليوميات العمل السياسي وإدارة دفة الحكم، ولقد ساعدت التقنيات الحديثة على تحقيق الحشد المطلوب في أسرع وقت وبأقل تكاليف علمًا بأن هذه التقنيات تتمكن من تجميع الحشود ولكنها لا تستطيع بالضرورة أن تخلق قيادات!
من الملاحظات السابقة نرى أن هناك تحولًا في نوعية الزعامات الجديدة والتي خرجت عن السياق التقليدي واكتسبت طابعًا شعبيًا وزخمًا جماهيريًا لم يكن متاحًا من قبل.. إن الأجيال الجديدة تبحث عن قيادات شابة تعبر عنها وتعكس طموحاتها وتسعى لتلبية احتياجاتها.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 14 يناير 2020