بدعوة كريمة من وزير السياحة والآثار، د. خالد العنانى، قمت بزيارة مبنى المتحف المصرى الكبير، بحضور سيادته ووزير الثقافة الأسبق، الفنان فاروق حسنى، وعالِم المصريات الشهير، د. زاهى حواس، وقد بهرنى ما رأيت وجعلنى أتساءل فى إعجاب ودهشة: كيف لبلد يمضى فى مشروع إصلاح اقتصادى ضخم، ويحارب أشرس أنواع الإرهاب على حدوده، ويدفع عجلة التنمية والإعمار، وينشر العمران فى كل مكان، ويقيم أكبر شبكة طرق وأنفاق وكبارى فى تاريخ مصر الحديثة.. كيف يمكن لنظام هذه بعض أعبائه أن يتحمل بناء هذا الصرح الحضارى الهائل الذى شهدته؟ إنما يدل ذلك على أن الفراعنة مازالوا فراعنة، إنهم يشيدون هرمًا رابعًا يطل على أشقائه الثلاثة على مرمى حجر، ويكفى أن نعلم أن واجهة المتحف الجديد تمتد بطول ثمانمائة متر، وتقترب فى حدودها من الجانبين إلى ما يصل إلى كيلومتر كامل، ومعجزة عمرانية لم أرَ لها مثيلًا فى الضخامة ولا نوعية البناء ولا كيفية التشييد، ولقد رأيت العمال المصريين البواسل يضعون «الخوذات» الواقية على رؤوسهم، ويتنقلون بين الأحجار الضخمة والتماثيل العظيمة، حيث يقف رمسيس الثانى شامخًا، بعد أن تحرك من موقعه الأخير فى ميدان رمسيس لكى يكون واسطة العقد لهذا الصرح الشامخ، وتحركنا بالسلالم الكهربائية بين أدوار المتحف المصرى الكبير، ومع كل لقطة نزداد انبهارًا ودهشة، ومع كل خطوة نشعر بالعزة والفخار، ونتأكد أن بلدنا هو صانع الحضارات وجامع الثقافات وبؤرة الإلهام فى التاريخ الإنسانى، والمتحف الجديد يأخذ بآخر تقنيات العصر وأحدث النظم المتحفية فى العالم، ويُعتبر بحق مشروع القرن فى تاريخ تأصيل الثقافة والحفاظ على التراث فى بلدنا العريق، وقد سعدت كثيرًا أن هذا المتحف الجديد لن يكون على حساب مقتنيات المتحف العريق فى ميدان التحرير، الذى لم يأخذ منه إلا بعض قطع قليلة للغاية، بينما الأغلب الأعم مما سوف يعرضه هذا المتحف الجديد هو من مخازن الآثار والقطع النادرة التى كانت محفوظة فى أماكن آمنة، بل لقد أسعدنى كثيرًا أن طلب منى السيد الوزير أن تسهم مكتبة الإسكندرية بخبراتها وإمكاناتها فى إصلاح أحوال مكتبة المتحف القديم بميدان التحرير تمهيدًا لنقلها إلى المتحف الجديد، وهى تضم تراثًا حضاريًا وتُعتبر سجلًا ثقافيًا يتعين الاعتناء به، ولكنه بحاجة إلى ترميم معظم الكتب والخروج بها، بعد أن وصلت المكتبة إلى حالة تستوجب الاهتمام العاجل والتدخل السريع، وكنا قد أوفدنا بالفعل بعثة من خبراء المكتبة، وجاءونا بصور فوتوغرافية لا تسر، مما جعل الوزير حريصًا على إنقاذ هذا الكنز المعرفى ونقله إلى المقر الجديد فى أحوال أفضل ومن خلال وسائل أحدث، ولقد طاف بنا السيد اللواء مهندس عاطف مفتاح، المشرف العام على إنشاء المشروع، والذى يبذل هو ومعاونوه جهدًا خارقًا بدافع وطنى بحت وحماس مصرى بغير حدود حتى يتم الافتتاح فى موعده، وتكون رسالة جديدة من مصر إلى عالمها المعاصر بأن المصريين كعهدهم دائمًا بَنّاؤون عظام وقادرون على حماية تراثهم والحفاظ على آثارهم كهدية من الشعب المصرى لشعوب العالم كله بلا تفرقة أو استثناء، ولقد أسعدنى كثيرًا أن التخطيط فى إنشاء هذا المتحف الكبير قد وضع فى اعتباره عشرات السنين القادمة، وربما مئاتها من التغيير والتطوير، فاستعد للمستقبل كما هو مستعد للحاضر، ووضع فى اعتباره المساحات المُعَدّة لأى إضافات جديدة من الكنوز التى تفتح أسرارها كل يوم على الأرض المصرية، فأنا أحسب أننا أغنى دول الأرض بالرصيد الضخم من القطع الأثرية والاكتشافات المبهرة، التى أدهشتنا وتدهشنا كل يوم وما خفى كان أعظم! وذلك بعد عمليات النهب ونزح الآثار من خلال الأجانب الذين عملوا فيها واحتكوا بها، فضلًا عن عمليات التنقيب غير الشرعية والتصرفات غير القانونية للقطع الأثرية النادرة فى أنحاء مصر، ولقد خصص المتحف زواياه بحوائط زجاجية لمشاهدة الأهرامات صباحًا ومساءً، فضلًا عن زاوية محددة لمراكب الشمس، التى يجرى نقلها بأسلوب علمى دقيق يحافظ عليها، مثلما تم نقل رمسيس الثانى بنفس البراعة المطلوبة والاحتياطات اللازمة.
لقد كانت زيارتى للمتحف المصرى الكبير مصدر سعادة وارتياح، وتأكد إيمانى بأن مصر سوف تظل زعيمة فى السياسة، منيعة فى العسكرية، نامية فى الاقتصاد، مزدهرة بالثقافة، محافظة على التراث!
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1463864