بينما تسود منطقة الشرق الأوسط في غرب آسيا وشمال إفريقيا حالة من الترقب نتيجة الصراعات المتداخلة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران من ناحية، وبين تركيا وحلفائها ومصر من ناحية أخرى آثرت الإدارة الأمريكية أن تدفع بما تسميه صفقة القرن في محاولة للحصول على دعم إقليمي لأفكار مكررة لم تتمكن من تمريرها الظروف الطبيعية فظنت أن الظروف الاستثنائية في المنطقة تمثل مناخًا ملائمًا لتمرير تلك الأفكار في محاولة لإغلاق ملف القضية خلال سنوات أربع مثلما تشير بنود تلك الصفقة التي ظل ترقبها طويلًا حيث دفعت واشنطن ببالونات اختبار لفقرات منها وتولى (كوشنر) - صهر الرئيس الأمريكي وعراب الصفقة - الترويج لها حتى في داخل العواصم العربية ذاتها، ولقد استقبل العرب دولًا وشعوبًا ذلك بقلق واضح وشكوك لا تخفى على أحد؛ إذ أن الصفقة تعطي إسرائيل تقريبًا كل ما تريد وتحرم الفلسطينيين تقريبًا من كل آمالهم الوطنية المشروعة وتعطيهم مسخًا مشوهًا تحت مسمى دولة فلسطينية منزوعة السلاح وليس لها سياسة خارجية مستقلة ومسلوبة الإرادة في مسائل الدفاع أمام التطورات الإقليمية، ولقد كان طبيعيًا أن ينتفض الفلسطينيون وأن يهددوا بالانسحاب من (أوسلو) بما يتبعه ذلك من الرجوع إلى المربع رقم واحد في تاريخ هذه القضية المزمنة، والأمر الذي لا خلاف عليه أن توقيت إعلان البيت الأبيض عن ما أسماه أيضًا (فرصة القرن) في حضور نتنياهو ومنافسه على رئاسة الحكومة الإسرائيلية إنما هو استغلال للقضية والعبث بها دعمًا لكل من ترامب في الانتخابات الأمريكية ونتنياهو في الانتخابات الإسرائيلية والحصاد في النهاية يصب في غير صالح القضية الفلسطينية وهي القضية المركزية الأولى للعرب والمسلمين وإن كنت لا أتحمس كثيرًا لتديين الصراع والحديث عن القدس من منطلق ديني؛ إذ أنني أرى أن تلك المدينة هي أرض فلسطينية محتلة عام 1967 ويجب التركيز عليها في التسوية من منطلق سياسي وليس من دوافع دينية، ولنا هنا بعض الملاحظات:
أولًا: إن بنود الصفقة توحي بأنها تعتمد على الحل الاقتصادي للقضية الفلسطينية ولا يعنيها الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ولذلك فهي لا تتسم بالتوازن لأنها لم تعطي للفلسطينيين حدًا أدنى يقبلونه أمام ما نصت عليه من ميزات اختصت بها الجانب الإسرائيلي، وبرغم أنني أعترف أن هذه واحدة من آخر الفرص المتاحة للتسوية السلمية في الشرق الأوسط بعد أن تأثرت المنطقة بأحداث الربيع العربي حتى تراجعت القضية الفلسطينية عن الصدارة وأصبحت اهتمامًا تاليًا بعد الهموم الوطنية في كل دولة على حده إلا أن الأمر الذي لا خلاف عليه هو أن هناك ثوابت لهذه القضية التي يبلغ عمرها قرابة ثماني عقود يجب أن تصل إلى حل؛ لأن أي حل لهذه القضية سوف ينزع من الإرهاب واحدة من أسباب وجوده ويجرده من (قميص عثمان) الذي ترتديه كثير من جماعات العنف السياسي والديني تحت مظلة الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني الذي حاول أن يكسر حاجز العزلة وأن يخرج إلى المجتمع الدولي بقضيته سواء داخل المنظمات الدولية أو على المستوى الثنائي كما هو واضح.
ثانيًا: إن الظروف الإقليمية في الشرق الأوسط تختلف عما كانت عليه من قبل فلقد أصبح هاجس الأمن لدى دول الخليج العربي مركزًا على الخطر الإيراني والذي يستند إلى سياسة طهران التوسعية حاليًا، أما إسرائيل فهي تكرس التعصب تحت مسمى الدولة اليهودية التي تدعو مزيدًا من يهود العالم إليها وتدفع بالفلسطينيين من داخلها ومن دول الشتات إلى الدولة الفلسطينية بحيث يصبح حق العودة للفلسطينيين قاصرًا على الجزء المتاح من أرضهم المحتلة وفقًا لما تحدده صفقة القرن.
ثالثًا: إن ذلك الصراع القائم قد ارتطم بموقف صادم هو ذلك الذي اتخذته الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن باركت القدس عاصمة لإسرائيل ووافقت على قرار ضم الجولان وشاركت في سلسلة من التصرفات الاستفزازية ضد الفلسطينيين، ولذلك لم تكن بنود الصفقة مفاجأة لا بسبب التسريبات في الشهور الأخيرة فقط ولكن أيضًا لأن كثيرًا من أفكار الصفقة قد جرى طرحها ورفضها من الجانب الفلسطيني، من هنا كان متوقعًا ألا تحظى تلك الصفقة بقبول عربي عام برغم وجود سفراء ثلاثة دول عربية في الأمم المتحدة أثناء إعلانها، ولذلك فإنني أقول وبحذر شديد: إن هناك رفضًا عامًا للصفقة ولكن درجات الرفض تختلف من دولة إلى أخرى وفقًا لعلاقاتها بالولايات المتحدة الأمريكية ودرجة دعمها لإسرائيل.
رابعًا: إن ما جرى ويجري في المنطقة إنما يمهد لمخاض جديد تتبلور فيه مواقف مختلفة وشخصيات جديدة قد تطرح نفسها على الساحة بديلًا ناضجًا يملك القرار الرشيد والقدرة المتكافئة في مواجهة الدبلوماسية الأمريكية والمواقف الإسرائيلية؛ ذلك أننا نرى أن اللغة التقليدية التي تعودنا لعقود طويلة ترديدها والشعارات التي نلوكها في مثل هذه المناسبات لم يعد لها وجود بل أصبح من المتعين على الطرف العربي والقيادة الفلسطينية أن يكون لديهما نمط جديد من التفكير وقدرة مؤثرة على اجتياز الأوضاع القائمة؛ لأن القضية شاخت وكادت أن تترهل وأن تصبح عقدة بلا حل.
إننا أمام مفترق الطرق فإما أن نتفاعل مع ما يدور حولنا ونسعى لتغييره أو نظل نبكي على اللبن المسكوب دون دور فعال أو مبادرات ملموسة، ولعلنا نتساءل الآن: هل من قبيل المصادفة أن يرتبط الصراع القائم بالموقف الصادم أم أن الترتيبات من حيث التوقيت ومجريات الأحداث هي التي أوصلتنا إلى هذا الوضع واختارت الظروف المحيطة بالمنطقة لكي تزداد التهابًا وترتفع تصعيدًا خصوصًا وأن صوت العقل هو الذي يجب أن يسود فوق كل الاعتبارات العاطفية أو المشاعر العابرة؟!
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 11 فبراير 2020