صادف منتصف فبراير 2020 الذكرى الخامسة بعد المائة لميلاد الدكتور محمد حسن الزيات، وزير الخارجية الأسبق، وزوج السيدة أمينة، ابنة الدكتور طه حسين. وحياة الزيات حافلة بالمواقف والمواقع، وثرية بالإنجازات والنجاحات، ولقد عرفته عن قرب فى مراحل مختلفة من حياته، فكان اهتمامى الأول به عندما كنت أعد لرسالة الدكتوراة عن الأقباط فى السياسة المصرية متخذًا مكرم عبيد باشا دراسة حالة فى إطار الأطروحة التى تقدمت بها لجامعة لندن فى مطلع سبعينيات القرن الماضى، فوجدت بين سطور الكتاب الأسود - الذى أصدره مكرم باشا ومؤيدوه ضد زعيم الوفد النحاس باشا - أن من الأخطاء التى رصدها الكتاب الأسود مجاملة الوفد للدكتور طه حسين بترقية زوج ابنته محمد أفندى حسن الزيات سابقًا أقرانه، وكنت أعلم وقتها أن الزيات قد أصبح وزيرًا للإعلام ثم وزيرًا للخارجية بعد خدمات طويلة فى القطاع الدبلوماسى الثقافى بوزارة الخارجية، فقد تنقل بين العواصم العالمية من الولايات المتحدة الأمريكية إلى إيران، ثم كان هو الذى أعلن استقلال الصومال فى إطار اللجنة التى شكلتها الأمم المتحدة.
وجدير بالذكر هنا أن كمال الدين صلاح قد دفع حياته ثمنًا لذلك الاستقلال عندما كان مبعوث الدبلوماسية المصرية للمشاركة فى ترتيباته، وهو بالمناسبة والد السيدة ليلى قرينة السيد أحمد أبوالغيط أمين عام جامعة الدول العربية حاليًا.. نعود إلى الزيات وحياته المثيرة التى اتصفت بالثراء الثقافى والأكاديمى والدبلوماسى، فقد درس اللغات الشرقية وتخصص فيها، واقترب من صهره العظيم طه باشا حسين وتزوج ابنته الوحيدة، ولن أنسى عندما كنت سكرتيرًا للرئيس الأسبق مبارك أن دق التليفون ليحادثنى الدكتور الزيات قائلًا: أرجو إبلاغ الرئيس أن زوجتى ابنة طه حسين قد دخلت فى المراحل الأخيرة من حياتها وأنا أريد من الرئيس السؤال عنها لأن ذلك يرفع من معنوياتها فى هذه المرحلة من نهاية العمر، وعندما أبلغت الرئيس الأسبق طلب أن نبعث لها بباقة زهور كبيرة وعليها اسم الرئيس والسيدة قرينته وأطيب تمنياتهما، وقد حملها مندوب من الرئاسة إلى ابنة عميد الأدب العربى، وكان الزيات ممتنًا لهذه اللفتة لرفع معنويات شريكة حياته فى آخر أيام حياتها، وعندما عملت فى الهند - وكان هو سفيرًا أسبق هناك - وكان سفيرى حينذاك هو الدكتور نبيل العربى الذى كان وقتها خارج الهند فى مهمة وطلب أن نستضيف الدكتور الزيات فى منزل السفير، وذهبنا مجموعة من الدبلوماسيين الشباب إلى الدكتور الزيات فى محل إقامته بمنزل السفير حيث كان مدعوًا لإلقاء محاضرة مهمة عن الفيلسوف العربى (البيرونى) وما كتبه عن الهند باعتبارها بلد (كل فضيلة مطلوبة وكل رذيلة مذمومة) وسألنا الزيات - وهو الوزير المتقاعد - بأستاذية وهدوء سؤالًا محددًا: لماذا يتميز الهنود عنا نحن المصريين؟، وقد كنت أحد من أجاب قائلًا: إنها الجدية والاستمرار، فهم ليسوا مثلنا يبدأون عملًا ثم يتوقفون عند أول عقبة؛ كذلك فإنهم يتميزون بأخذ الأمور بجدية مع استخدام الميزة النسبية للأعداد الهائلة فى صناعة التنمية وبناء المستقبل، وظل الوزير المتقاعد يشرح لنا ملاحظاته مؤيدًا بعض ما قلنا، مضيفًا إليه من تجاربه الواسعة ومقارناته التى تحققت له من أسفاره الكثيرة ومواقعه المتعددة. لقد اختاره الرئيس عبدالناصر بعد هزيمة 1967 رئيسًا للهيئة العامة للاستعلامات منتدبًا من وزارة الخارجية، حيث كان يترأس الدائرة العربية فى الوزارة، ثم انتقل إلى الأمم المتحدة فى نيويورك، وكان الدبلوماسيون الشباب يتندرون قائلين: إن الدكتور الزيات يظل ساهرًا إلى منتصف الليل يمد يده، فإذا وجد شيئًا صلبا فهو كتاب يقرؤه، وإذا وجد شيئًا طريًا فهو طعام يأكله!. ثم اختاره الرئيس السادات وزيرًا للإعلام، فوزيرًا للخارجية، وهو الذى عاصر حرب أكتوبر، إلى أن تولى الوزارة وزير السياحة وقتها وهو السفير المرموق إسماعيل فهمى، إيذانًا بمرحلة جديدة فى العمل الدبلوماسى المصرى.
ولقد عملت مع الدكتور الزيات بعد ذلك عن قرب عندما كان رئيسًا لجمعية الصداقة المصرية الهندية، وكنت أنا نائبه، وتعلمت منه الكثير قبل أن يقبل دورًا قياديًا فى الحزب الوطنى بدمياط، وأتذكر يوم افتتاح الميناء الجديد هناك أن قال فى خطبته: إن الإسكندرية تنتسب إلى الإسكندر وهو من الغزاة؛ وبورسعيد تنتسب إلى الوالى سعيد، وقد يكون من الطغاة، أما دمياط فهى المدينة المصرية الخالصة التى لا تنتسب لأجنبى فى كل مراحل تاريخها، ولقد قضى الزيات بعد سنوات قليلة تاركًا إرثًا عميقًا من الآراء والأفكار والمواقف والكتابات، نظل نعتز بها تراثًا لدبلوماسى أديب عايش عميد الأدب، وتبوأ أعلى مناصب الجهاز الدبلوماسى.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1472766