عرفته منذ سنوات طويلة، ورأيت فى شخصيته المتوازنة واحترامه لذاته وعشقه لفنه ما جعلنى أدرك أن الطبيب يحيى الفخرانى قد جمع المجد من أطرافه كما يقولون، فقد أنهى دراسته وتخرج فى كلية الطب التى كان يمارس فى إطار أنشطتها الفنية التمثيل على نحو لفت الأنظار إلى موهبته وقدراته الخاصة التى جعلته نموذجًا لِـمَا يمكن أن نطلق عليه السهل الممتنع، والذين شاهدوا أدواره فى المسلسلات التليفزيونية والسينما والمسرح ينبهرون بتصرفاته الطبيعية التى ليس فيها مسحة تكلف أو أثر للتصنع وكأنما يعيش الحياة مفترضًا أنه لا يراه أحد، ولقد عرفنا أنماطًا من الفنانين يتوهم كل منهم أنه حالة خاصة وموهبة فريدة ويتصرف بطريقة توحى بأنه يشاهد نفسه مع الجمهور ويستمع إلى صوته الذاتى فى إعجاب، وهذا نمط دخيل على الفن الأصيل الذى يستوجب أن يكون الفنان تعبيرًا تلقائيًا عن ذاته بحيث يكون اندماجه فى دوره وكأنه يصل إلى حد الإلهام، وأظن أن يحيى الفخرانى هو التجسيد الحقيقى لهذا النمط الذى لا تعرفه إلا السينما العالمية التى يبدو فيها الفنان وكأنه لا يمثل ولكنه يعيش على طبيعته دون تظاهر أو اصطناع، والأمر الأكثر أهمية فى شخصية يحيى الفخرانى هو أنه مثقف رفيع الشأن أحاط بأطراف من المعارف المختلفة، وعلمته الحياة ما صقل موهبته وجعله متميزًا فى العقود الثلاثة الأخيرة، كما أنه يعيش هموم وطنه ويشاركه أحلامه ويكتوى بآلامه.
ولقد عرفته عن قرب لسنوات طويلة هو والسيدة قرينته الدكتورة لميس جابر زميلة دراسته ورفيقة عمره، وقد كان زواجهما تعبيرًا عن مصر الجميلة بكل ما فيها من قيم نبيلة ومثاليات رائعة، حتى كانت قصة حبهما تعبيرًا صادقًا عن الوحدة الوطنية والإحساس الإنسانى المشترك حتى أصبحت أسرته الصغيرة نموذجًا متصلًا للاندماج الحقيقى، بدءًا من الآباء وصولًا إلى الأبناء، وقد اهتمت السيدة قرينته بتاريخ مصر الحديث، فهى التى كتبت المسلسل الشهير (الملك فاروق)، وتواصلت مقالاتها بعد ذلك فى الصحافة المصرية، والفخرانى ينظر إلى ذلك برضا وارتياح، لأنه ليبرالى النزعة، متفتح النظرة، يؤمن بالتكامل بين الرجل والمرأة فى الحياة وحقهما فى شراكة راقية وانفتاح حقيقى. وعندما تألق يحيى الفخرانى فى (ليالى الحلمية) أصبح بحق فنان الأدوار الصعبة والشخوص المركبة، وقد زارنى ذات يوم أثناء عملى فى السفارة المصرية فى فيينا، واحتضن حفيدى سليم البدرى الذى يحمل نفس اسم يحيى الفخرانى فى (ليالى الحلمية)، وفى كل رمضان كان لديه تقليد دائم فى أن يدعو بعض أصدقائه للإفطار بمنزله، وفى مقدمتهم الدكتور كمال الجنزورى - رئيس الوزراء الأسبق - والدكتور زاهى حواس، حيث أشاركهم تلبية الدعوة على مائدة ذلك الفنان المتميز عن غيره المختلف عن سواه، وكنت أحدث نفسى دائمًا: هل الانفراد بتخصص واحد أفضل أم أن التحرك على جبهة ثقافية عريضة هو الأجدى، خصوصًا فى ظل نظرية وحدة المعرفة التى تجعل فروع العلوم المختلفة كالأوانى المستطرقة يتدفق كل منها إلى الآخر، ويخدم كل فرع منها سواه كالطبيب الشاعر أو المهندس الموسيقى أو المحاسب الفنان؟.. من هنا يصبح يحيى الفخرانى أيقونة بشرية جمعت بين الطب والفن، وقدمت لمجتمعها والمحيطين بها أسباب السعادة وأنواع المتعة الراقية.. والذين تعاملوا مع يحيى الفخرانى يدركون أن حياته العادية بسيطة وهادئة، لا يعرف الغرور ولا يجيد التعالى، فهو فى كل الأحوال تعبير ذاتى لا يختلف وفقًا للظروف المحيطة أو الأوضاع الطارئة. ولقد رأيت أن أكتب عنه اليوم تقديرًا لذلك النمط المصرى لابن بار بوطنه يتفاعل مع أحداثه ويشارك فيما يدور حوله مواطنًا صالحًا، وقدوة تمتد من (أرض الأحلام) وترتقى حتى تصل إلى (الملك لير).. تحية للفنان الصديق الذى أسعدنا دائمًا وزادنا بهجة ورضا وظل مصدر فخر واعتزاز لكل من عرفه.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1475034