كان موقفًا نبيلًا من القائد الأعلى للقوات المسلحة رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي أن يكرم الرئيس الأسبق مبارك عند رحيله بجنازة عسكرية رفيعة المستوى مع تواجد شعبي متميز شجعت عليه الإجراءات الميسرة التي جرى اتخاذها لاستقبال مشيعي جنازة الرجل الذي حكم البلاد ثلاثين عامًا فضلًا عن سنوات ست سبقتها كنائب للرئيس بالإضافة إلى دوره البطولي في حرب التحرير التي خاضها الجيش المصري عام 1973، وكان الأمر الرائع في هذه المفاجأة هي أن أحكامًا قضائية كانت قد صدرت ضد الرئيس الأسبق ومن نتائجها حرمانه من الجنازة العسكرية إلا أن الرئيس الراحل أنور السادات كان قد أصدر قرارًا جمهوريًا يعطي الحق لقيادات حرب أكتوبر في جنازة عسكرية متى رحلوا عن عالمنا، ولابد أن القيادة العليا للقوات المسلحة قد أدركت أن تقاليد العسكرية المصرية الشامخة هي الفيصل في النهاية لتكريم أبطالها حتى وإن كانت لهم بعد خدمتهم العسكرية أخطاء سياسية إلا أن البطولة في ميادين القتال هي العيار في تحديد مسار القيادات وأساليب تكريمها، وفي حالة الرئيس الراحل مبارك فإن هناك تفرقة واضحة بين تاريخه العسكري الجاد وبين مسيرته السياسية كرئيس للبلاد وهو أمر يتفق عليه أو يختلف حوله معاصروه، ولقد كان تصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي للجنازة إشارة واضحة لتكريم الجزء العسكري من تاريخ ذلك البطل الراحل تاركين لمحكمة التاريخ أن تحكم على فترات رئاسته وفقًا لمعاييرها وما جرى فيها وما نتج عنها، إن الرجل الذي حكم البلاد ثلاثين عامًا لابد أن يرتكب أخطاءً بسبب طول المدة ولكن ذلك لا يطمس أبدًا الومضات المضيئة في تاريخه عسكريًا وسياسيًا أيضًا، وهنا تكون لنا الملاحظات التالية:
أولًا: لا أظن أن دولة عربية غير مصر كان يمكن أن تتعامل مع رئيس أسبق قضى جولات في المحاكم والسجون وأن تعطيه حقه العسكري ولا تنسى أنه واحد من أبطال الحرب وقادة الطيران، ولذلك فإنني أضع هذا الحدث في مصاف إيجابيات الشعب المصري ورئيس دولته الذي أخذ على عاتقه أن يقوم بهذا العمل المتحضر تكريمًا للوطن والقوات المسلحة معًا، ولقد وصلت الرسالة للشعب كله وهي أنه لا تتحكم في السيسي أحقاد أو عقد ولكنه يعطي كل موقف ما يستحقه ويتجرد في موضوعية كاملة من أجل صورة مصر في الخارج ومكانة قواتها المسلحة العريقة، وإذا كنا لا ننسى بطولات مبارك العسكرية فإننا نقدر له أنه انحنى للعاصفة واستجاب للإرادة الشعبية ورحل عن منصبه دون أن يفكر في السفر إلى الخارج أو الهروب من المحنة ووقف صلبًا في كل محاكماته محترمًا القضاء وخاضعًا لإرادة الشعب.
ثانيًا: يجب أن لا ننسى للرئيس الأسبق – رغم أخطائه التي لا ننكرها – أنه استطاع أن يستكمل تحرير سيناء وقاوم الاستفزازات الإسرائيلية حتى تم الانسحاب في المرحلة الثالثة؛ كما أنه استعاد أيضًا الشعور العربي تجاه مصر وتصرف بحكمة وهدوء حتى استعادت مصر شقيقاتها العربيات الذين أرسلوا سفراءهم إلى القاهرة بعد قطيعة عقد كامل كما عادت جامعة الدول العربية إلى مقرها دون أن تتخلى مصر عن كلمة واحدة من التزاماتها الدولية والإقليمية، ويجب أن نضيف إلى ذلك أن مبارك حاول أن يعطي مساحة من حرية الرأي فتحقق له ما أراد أحيانًا ولكنه أخفق في ذلك أحيانًا أخرى، لقد تعامل مع الأوضاع باعتباره حارسًا على الوطن أكثر منه حاكمًا له أو مسيرًا لأموره.
ثالثًا: إننا لا يجب أن نخضع لعاطفة اللحظة والجو العام لرحيل مبارك فهو ليس ملكًا لأسرته ولكنه ملك لشعب حكمه ثلاثين عامًا؛ لذلك وجب تقييمه موضوعيًا فهو في ذمة الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر ولكن سنوات حكمه تقف أمام محكمة التاريخ إيجابًا وسلبًا، نجاحًا وإخفاقًا، مواقف متميزة وفرص ضائعة أيضًا، إننا نتذكر اليوم أن ملفات التعليم والصحة والعشوائيات وتعمير سيناء ونزع الألغام لم تجد النظرة الشاملة والتحليل العميق واكتفينا بالمظاهر الكمية دون الولوج إلى جوهر النوعية؛ كما أن البصمات السلبية على المكون الثقافي للأجيال الجديدة في الأعوام الثلاثين التي أدت إلى السنوات الصعبة -التي اجتازتها البلاد بعد ذلك- قد جاءت نتيجة تجريف المهارات وتجميد الكفاءات.
رابعًا: لا يجب أن ننسى أن مبارك هو ابن العسكرية المصرية التي لا تعرف الخيانة ولكنها تتمسك بتراب الوطن لذلك كان نموذجًا للانضباط والجدية حتى أثناء محاكمته واستطاع أن يتعايش في صلابة مع النقلة الهائلة من مقعد الرئاسة إلى قفص الاتهام؛ بل إنني أزعم أنه بارك بعض الخطوات الجديدة ودعا في آخر رسالة له إلى التفاف المصريين حول قيادتهم والحذر مما يحاك ضدهم من ألاعيب ومؤامرات، ولعلي أشهد هنا أن ذلك الرجل – وهو في رحاب الله – كان يعتز دائمًا بعسكريته ويشيد بالمقاتل المصري وينحاز إليه في كل الظروف.
خامسًا: أيها السادة .. إن دهاء التاريخ وأحكامه أقوى من غيرها ولمبارك ما له وعليه ما عليه، ولقد تعامل السيسي معه في الجزء الإيجابي من تاريخه الطويل حتى أدرك الجميع أن العسكرية المصرية لا تأكل أبناءها حتى ولو أخطأوا ولكنها تتذكر البطولات الحقيقية والمواقف الإيجابية وليس لديها نوع من عمى الألوان الذي يؤدي إلى خلط الأوراق، فالموضوعية والحياد والنزاهة هي معايير تقويم كل من عبر على ساحة الوطن قائدًا عسكريًا أو زعامة سياسية برغم كل التحديات التي نعيشها والظروف التي نمر بها.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 3 مارس 2020