تتشابه وظيفة الدبلوماسي مع مهمة الجاسوس مع الفارق الضخم بين جوهر كل منهما! فالدبلوماسي وطني يعمل لحساب دولته ويتعامل مع الجميع في علانية ووضوح وهو أيضًا مؤهل بدرجة كافية تسمح له بانتقاء المعلومة والتقاط الخبر والتعبير عن الرأي؛ أما الجاسوس فهو ذلك الذي يعمل في الخفاء ويسعى لكسر شفرة الدولة ويحاول أن يعبث بها ويمارس نشاطه فيها بغية إضعافها أو تعزيز مكانة الطرف الذي أوفده في مهمته وجنده للعمل لحسابه ولذلك اعتمدت الدول المختلفة على إجادة دبلوماسيها للغة الدولة المبعوثين فيها، وأتذكر أن (معهد شملان) في لبنان كان مدرسة لتعليم اللغة العربية للدبلوماسيين الأجانب وكان البعض يطلق عليه تندرًا (مدرسة الجواسيس) ثم انتقل الأمر بعد ذلك إلى بعض الجامعات التي تعلم اللغة العربية لغير الناطقين بها وذلك في عدة دول وليست مركزة في مكان واحد، وأتذكر أن سفيرًا لدولة أجنبية في القاهرة كان صديقًا لي وكنت أداعبه دائمًا قائلًا: إنك خريج لمدرسة الجواسيس، وكان يضحك من أعماقه ويقول لي: نتجسس على ماذا؟! إن بلادكم مكشوفة وأسراركم معروفة والعلم الحديث لم يعد يحتاج إلى جواسيس بشر، فالجاسوسية الإلكترونية أصبحت هي البديل الأقوى والأسرع في كل الحالات، وأنا أتذكر اليوم محاولة لتجنيدي وأنا دبلوماسي صغير أملك مفاتيح الشيفرة في السفارة المصرية في لندن في مطلع سبعينيات القرن الماضي وقد كنت أسكن في منطقة (سان جونز وود) بجوار كنيس يهودي قديم تاركًا سيارتي دائمًا في مكان آمن يفصل بين العمارة التي أسكنها والمعبد اليهودي، وفي إحدى الليالي الممطرة كنت أجلس أنا وزوجتي نتابع فيلمًا تليفزيونيًا فإذا بنا نسمع صوت دوي لارتطام سيارة بأخرى فنظرت من النافذة عبر الأمطار المتساقطة لأرى سيارة قريبة من سيارتي وبجوارها شخص فقلت لزوجتي: إن سيارتي في الغالب قد تعرضت لحادث ولكن النزول في هذا الجو أمر مستحيل، ورددت كلمة: (إن الصباح رباح)، وعندما اقتربت من سيارتي في طريقي إلى العمل في ذلك الصباح البارد والممطر وجدت أن الفانوس الأيسر للسيارة قد تحطم ولكنني فوجئت بممسحة الزجاج وقد تثبت فيها مظروف بلاستك به رسالة ففضضتها لأجد مكتوبًا فيها (بسبب الأمطار اصطدمت سيارتي بسيارتكم ومستعد لدفع تكاليف الخسائر) موقعًا عليها من صاحبها ورقم تليفون العمل والمنزل، فأخذت الورقة واتجهت إلى السفارة المصرية حيث كنت أعمل واتصلت بالرقم فرد علي صاحبه فورًا وقال أنه يأسف لما حدث وأنه مستعد لإصلاح الخطأ غير المقصود وبالفعل قدرت له التكاليف فأرسل لي شيكًا بالمبلغ بلا تردد؛ ثم أرسل لي باقة ورد في اليوم التالي دون مناسبة ودعاني إلى الغذاء معه في مطعم قريب من السفارة وبدأ الشك يساورني ويذهب بي في كافة الاتجاهات ثم اختفى أسبوعًا ودعاني للقاء آخر في ذات المكان على العشاء، وكنت قد أخذت حذري وأخبرت المسئول الكبير في الجهاز الأمني بالسفارة عما جرى فاقترح علي أن أدعوه أنا إلى غذاء نكون فيه نحن الثلاثة حيث تحدثنا كثيرًا وبدأ الضيف الإنجليزي يتطرق إلى الأوضاع في الشرق الأوسط والظروف الاقتصادية في مصر ويقول لي هامسًا: لماذا لا تعد لنا دراسة عما يمكن أن تقدمه بعض الشركات الغربية للاقتصاد المصري؟ وبانتهاء العشاء تحدثت أنا ومسئول الجهاز الأمني الكبير الذي قال لي: إن هذه محاولة تجنيد من النوع النمطي المعروف وهي واضحة تمامًا، وكنت مقتنعًا بصحة ما قاله من البداية فبدأت أتوقف عن الرد على الشخص الإنجليزي وقطعت صلتي به تمامًا رغم المكالمات المتكررة والتي بدأت تقل مع الوقت حتى اختفت تمامًا ومنذ ذلك الحين شعرت أن الدبلوماسيين مستهدفون بمحاولات التجنيد ولو بخلق الصدفة وأن الخيط رفيع جدًا بين الدبلوماسية والتجسس، ولقد لاحظت أنه من الممكن زرع شخصية معينة في مكان بذاته ليكون مركزًا لجمع المعلومات - وربما لصالح أكثر من جهة- وإن كنت أظن أننا في هذا العصر نشهد تغييرات كبيرة في العمليات المتصلة بالأمن القومي وحمايته، ولحسن حظنا في مصر أن لدينا أجهزة أمنية مشهود لها بالكفاءة العالية والصيت الذائع والتفوق المعروف في حماية أمن البلاد ومصالحها العليا واكتشاف بؤر التجسس بكل أنواعه سواء أكان سياسيًا أو اقتصاديًا أو عسكريًا كما أن تكنولوجيا المعلومات قد قللت إلى حد كبير من أهمية الجاسوس الفرد على اعتبار أن عمليات التنصت لم تعد تحتاج إلى الوجود المباشر ولم يعد نقل المعلومات محتاجًا إلى حبر سري وشيفرة خاصة بل أصبح الأمر معتمدًا على أجهزة التقاط حديثة عن بعد قد يصعب اكتشافها أو الوصول إليها، ويكفي أن نتذكر الطريقة التي قتل بها الضابط الإيراني سليماني - منذ فترة وجيزة - على أرض مطار بغداد بينما العملية برمتها تدار من حجرة مجهزة في مقر سري بالعاصمة الأمريكية، فالأساليب التقليدية قد بدأت تختفي وتحل محلها أساليب جديدة، وأنا أتذكر الآن أن (لورانس العرب) الذي جرى زرعه إلى جانب الشريف حسين وأولاده في مطلع القرن الماضي ومع نهايات الحرب العالمية الأولى كان تجسيدًا لنظرية الاقتراب المباشر للحصول على المعلومات وتغيير السياسات ولم يعد الأمر كذلك الآن بل إن جمال الدين الأفغاني بتاريخه العريض وقامته السامقة في التاريخ الإسلامي الحديث لم يبرأ هو الآخر من اتهامات مماثلة، فلقد أكد الدكتور لويس عوض أكثر من مرة اقتناعه بأن الأفغاني كان إيرانيًا ينقل المعلومات للجانب البريطاني بل لقد قيل أيضًا أن إدوارد الثامن الذي تخلى عن العرش من أجل محبوبته الأمريكية المطلقة كان هو الآخر عميلًا للنازي ومتعاطفًا مع هتلر وسياساته كما تردد أن الأمير عبد الاله الذي كان وصيًا على عرش العراق قد تواصل سرًا مع أجهزة الرئيس عبد الناصر! وقد تكون هذه كلها شائعات ولكن الأمر الذي لا جدال فيه هو أن ندرك أن حرب المعلومات هي الحرب الأشد في عصرنا وتتميز قوة الدولة بما لديها من معرفة ومعلومات عن غيرها ولذلك فإن صراع المعرفة وحرب المعلومات حقيقة قائمة!
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 10 مارس 2020