فقدت الشجرة أغصانها، وتساقطت أوراقها، فاختفى برقع الحياء وظهرت الأمور كما هي مجردة على طبيعتها مؤلمة بنوعيتها، فورقة التوت التي كانت تستر حياء بعض الدول في ظل شعارات إنشائية وعبارات عاطفية لم يعد لها وجود ونظر معظم العرب حولهم ليجدوا أنفسهم شبه عرايا أمام مرآة الزمن، لقد اختفى الحلم القومي وابتعد الأمل العربي ولم يعد الأخ يفكر في أخيه كما لم تعد مصلحته تعنيه، أقول ذلك وأنا أنظر حولي لأرى أن من تصوروا أنهم خير أمة أخرجت للناس قد تفرق جمعهم، وانفرط عقدهم، ولم يعد هناك التزام يربطهم بل غلبت المصلحة القطرية العابرة على المصلحة القومية الدائمة ورفع الجميع شعار الوطن أولًا وهو شعار براق قد لا تكون له آليات منفصلة عن الكيان الكبير، ونحن بهذه المناسبة لسنا ضد البحث عن المصلحة الذاتية لكل قطر على حدى ولكننا نحذر من حالة التباعد بين الدول الوطنية في العالم العربي وقد انصرف الجميع إلى قضاياهم الفرعية ومشكلاتهم المحلية ولم يعد هناك ما يجمع العرب إلا اللقاءات الشكلية، والاجتماعات الروتينية، والمناسبات التاريخية، لهذا فإنني أضع أمام القارئ العربي الملاحظات الآتية:
أولًا: لقد أهدرنا نحن العرب كثيرًا من المناسبات التي كان يمكن أن تجمع الشمل وأن توحد الكلمة، ولعلي أسوق – كمصري - أزمة سد النهضة مع دولة إفريقية شقيقة هي إثيوبيا ونشعر هنا أن السودان توأم مصر تحرك في اتجاه مختلف مؤمنًا بأن إفريقيته تسبق عروبته ولا بأس من ذلك فثلثا العرب تعدادًا يعيشون في إفريقيا ولكن تظل هناك روابط تاريخية تتصل بالقضية العربية الأولى وهي القضية الفلسطينية، ولقد تابعنا في الشهور الأخيرة تحولات في السودان وليس من حقنا التدخل في شأنه الداخلي ولكن الأمر الذي لا جدال فيه هو أن أي تحرك منفرد تجاه أطراف القضية العربية المركزية يجب أن يخضع للثوابت وأن يلتزم بالمقررات السابقة في هذا الشأن خصوصًا وأن وضع مصر والأردن يختلف عن غيرهما، فهما دولتان كانتا تسعيان لتحرير أرض لهما سطت عليها إسرائيل في ظروف يعرفها الجميع.
ثانيًا: إن دول الخليج العربي تمثل ثقلًا اقتصاديًا عالميًا يحسن توظيفه في خدمة القضايا الوطنية للدول العربية شريطة أن تكون متسقة مع الروح العربية الكبرى وتعبيرًا عن التضامن العربي الحقيقي، وأعود مرة أخرى لأضرب مثالًا بالمسألة الليبية في جانب وأيضًا مسألة العلاقات المصرية الإثيوبية في جانب آخر حتى نكرر أن الآخرين سوف يحترمون إرادتنا إذا تأكدوا بحق أننا أمة عربية واحدة مهما اختلفت المصالح القطرية أو التوجهات الوطنية.
ثالثًا: إن أحداث التاريخ تؤكد أن القضايا الوطنية في مجموعها هي المكون الأساس للقضية القومية الكبرى ولا يظن أحد أنه يمكن أن يتصور تعارضًا بين الأمرين، فالكل يبحث عن مصلحة الجزء والجزء ينتمي إلى الكل في كافة الأحوال ولا تثريب على أي منا إذا كانت له رؤية خاصة تتعلق بالمصالح المباشرة وعلى الجميع في هذه الحالة أن يحترموا إرادته وأن يقدروا ظروفه.
رابعًا: إن الذين يتباكون على الماضي يجب أن يدركوا أن الدنيا قد تغيرت وأن السرعات – دولية وإقليمية - متفاوتة وأن التحالفات السياسية ناقصة، فالدنيا قد تحولت والعالم قد تبدل وعلينا أن نواكب العصر بمزيد من المبادرات الذكية والبناءة والأفكار العملية المعطاءة، فالجمود هو حالة من الهوان التي تودي بحياة الأمم وتصيب الشعوب بالعجز.
خامسًا: إنني ممن يظنون أن اختفاء الحياء القومي وسقوط أوراق التوت التي كانت تخفي عوراتنا ليس شرًا كله؛ إذ أن الوضوح والشفافية أفضل في كل الأحوال ولو كانا صادمين، وأصحاب التخصص هم الأقدر على الحكم به أو استخدامه ولكن الإنسان محكوم بالأهواء محصور بين التجربة الذاتية والأحلام الوردية ويجب أن يدرك في النهاية أنه لا يصح إلا الصحيح؛ لذلك فإننا نتصور أن الارتباط بين العاطفة القومية وبين الانتماء الوطني يجب أن يكون قائمًا وأن يكون هناك فهم عميق ينظم الولاءات المتعددة بما لا يتعارض مع المصالح العليا للدول ولا ينال من الثوابت خصوصًا فيما يتصل بالحقوق الثابتة والمشروعة للشباب الذي يريد أن يرى العالم من منظاره وأن يحرك الأمور بطريقته.
لا يختلف اثنان على أن الوضع الراهن في المنطقة العربية يشير بوضوح إلى أهمية التوفيق بين سياسات كل دولة على حدة وبين السياسات العليا للمجموع العربي في ظل التطورات التي يشهدها الجميع في العراق، وفي سوريا، وفي لبنان، وليبيا واليمن وغيرها من المواجهات التي تدفع بالمنطقة نحو صدام مستمر مع القوى الأخرى التي تشاركنا المنطقة التي ننتمي إليها جميعًا، ولعلنا نسجل هنا أن الخلاف بين التوجهات المحلية والسياسات الإقليمية أمر يصعب تلافيه ويستحيل أن نتصور أن دولة عربية يمكن أن تمضي مع العمل العربي المشترك على نحو يؤدي إلى الإضرار بمصالحها الوطنية، إن ذلك أمر لم يحدث ولا أظنه سوف يحدث لأن الأهداف القومية هي امتداد طبيعي للغايات الوطنية والتعارض بينهما حالة نظرية مؤقتة لا يمكن التعويل عليها أو الأخذ بها، ونحن نرى أن التطور الذي جرى على الساحة القومية يمكن أن يعطينا قدرًا أكبر من الشفافية ويبعدنا عن الزيف السياسي الذي كنا نعاني منه على امتداد العقود الماضية حيث كانت الشعارات زاعقة، والهتافات عالية، والعواطف مشتعلة ولكن كان الواقع يشير إلى غير ذلك تمامًا، من هنا فإن نظرتنا يجب أن تكون محكومة بعوامل ترسيخ الاستقرار والسلام باعتبارهما دعامتان لسلامة الأمم ورفاهية الشعوب.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 24 مارس 2020