ترددت أنباء متتالية من مصادر متعددة في العقود الأخيرة حول معاناة المسلمين في الصين والفلبين وميانمار وغيرها من الدول الآسيوية التي تعيش فيها أقليات إسلامية تنتمي إلى أرض تلك البلاد تاريخًا وحضارة وثقافة، وأنا ممن يستقبلون هذه الأنباء بشيء من الحذر إذ أنه يجري تلوينها أحيانًا بصورة عاطفية تمس شغاف قلوب المسلمين في أنحاء العالم في محاولة لاستنفارهم واستنهاض دورهم أمام دول تعتبر تلك الأمور شأنًا داخليًا لها وترفض التدخل فيها، ولكن في ظل العولمة والقرية الكونية الواحدة وسقوط الحواجز وتلاشي الفواصل بين الأمم والشعوب في ظل ثقافة المواطن العالمي فإننا نكون أمام أمر مختلف لأن حقوق الإنسان ليست قاصرة على جماعة بذاتها بل هي حق مكفول لكل من ينتمي إلى البشرية مهما كانت قوميته أو ديانته أو لونه أو لغته، ولقد خلطت بعض هذه الدول الآسيوية بين أوضاع الأقليات الإسلامية فيها وبين ممارسات أخرى للإرهاب الدولي الذي يضرب العالم بلا تفرقة بل ويستهدف المسلمين قبل غيرهم، وأنا هنا أكتب بحذر شديد محترمًا سيادة الدول مبتعدًا عن التدخل في شئونها الداخلية ولكنني ألفت النظر إلى أننا في عالم ملتهب يستحيل فيه إخفاء نبأ معين أو حدث ما، فتكنولوجيا العصر فتحت الباب للصوت والصورة معًا لنقل الأحداث رغم اعترافنا بقدر لا بأس به من التزييف و(الفبركة) إذ جاز التعبير، ولكننا نؤمن أيضًا أنه لا دخان بغير نار ونعترف بأن الصراعات القومية قد ارتدت لباسًا دينيًا لأنها وجدت فيه فزاعة ذكية لتحريك العواطف واستقدام الدعم مع أنني أرى أن الاستقواء بالخارج هو أسوأ ما يصيب الخلافات الطائفية داخل الدولة الواحدة، وأنا هنا لا أكتب كمصري مسلم إذ يعلم الجميع أن قضية أقباط مصر كانت ولا تزال وسوف تظل هاجسًا يسيطر على مسيرة حياتي منذ كتبت أطروحة الدكتوراه في جامعة لندن حول دور الأقباط في السياسة المصرية، ولحسن الحظ فإن الأمور قد تغيرت كثيرًا خصوصًا في عهد الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي نتيجة حرصه الشديد على المساواة الكاملة بين المصريين حتى أن الدولة عندما تبني مسجدًا تبني معه كنيسة لأشقاء الوطن وشركاء الحياة؛ لذلك فإنه ليست لدي لوعة وطنية أتلوى بها في هذا السياق، فبلادي برأت إلى حد كبير من الجرائم الطائفية ماعدا ذلك الإرهاب الأسود الذي يضرب الجميع بلا تفرقة ويقتل رواد المساجد أحيانًا بنفس الأساليب التي يفجر بها رواد الكنائس أحيانًا أخرى، من هنا فإنني أتطلع إلى أشقائنا في الدول الآسيوية – دون تسمية أو تحديد – لكي نتدارس جميعًا الأفكار التالية:
أولًا: ليس منا من اختار عقيدته أو انتقى دينه فهكذا وجدنا آباءنا يفعلون وذلك لا ينفي أن كل صاحب عقيدة مؤمن بها وحريص عليها وقد يموت في سبيلها؛ لذلك فلنجعل الديانات علاقات خالصة بين المخلوق وخالقه دون تمييز أو تكدير أو تفرقة كما أن الشراكة الوطنية تعلو على غيرها، فمبدأ المواطنة يعني المساواة بين أبناء الوطن الواحد رغم الاختلافات بينهم، فهذا مسلم وذاك مسيحي، وهذا غني وذاك فقير، وهذا رجل وتلك امرأة فهي مساواة بين مواطنين رغم الاختلافات الفرعية التي لا تؤثر على المبدأ الأصيل للمواطنة.
ثانيًا: إن الحضارات الآسيوية هي حضارات ذات ثقافات متعددة وديانات مختلفة ولغات متنوعة، فآسيا القارة الأم عرفت التعددية قبل غيرها وقد دخل الإسلام إلى دولها طواعية ودون غزو أو حرب بل عن طريق التجارة في معظم الأحيان أو نتيجة الامتزاج بقوميات إسلامية مجاورة؛ ولذلك فإنه من العبث والظلم تحميل الأقليات المسلمة عبء الاختلاف أو محاولة التمييز السلبي ضدها لأنهم أبناء الأرض التي يعيشون عليها وهم جزء من التركيبة الحضارية والثقافية للشعوب التي ينتمون إليها، فالأغلبية لا ميزة لها إلا أمام صناديق الانتخاب واختيار الحكومات وانتقاء الحكام أما عندما يأتي الأمر إلى المساواة بين الناس فللجميع مراكز قانونية واحدة لا يعلو أحدها على الآخر.
ثالثًا: إن فلسفات آسيا العميقة ومبادئ الآباء الكبار مثل (كمفشيوس) وبوذا وغيرهما وصولًا إلى المهاتما غاندي هي كلها دعوات للسلام وغرس السكينة في القلوب والائتلاف بين البشر بغض النظر عن الفوارق الطارئة أو الأحداث العابرة، لهذا فإن الآسيويين هم أساتذة التعددية وأبرز دعاتها لذلك فإن الأمر لا يستقيم مع ممارسات غير عادلة تجاه بعض الأقليات إسلامية أو غير إسلامية كما تواترت الأنباء في السنوات الأخيرة.
رابعًا: إن الإرهاب وهو طاعون العصر شريك أساس في الجرائم التي ترتكب ضد الشعوب والمجتمعات والتي لا يفرق فيها الإجرام العشوائي بين مسلم وبوذي أو مسيحي ووثني، فالديانات السماوية والديانات الأرضية كانت ولا تزال في قارب واحد يستهدفها الإرهاب المروع في كل زمان ومكان.
خامسًا: إن الذين يتصورون أن الجاليات الإسلامية تدعم الإرهاب أو تسانده هم واهمون لأنهم أول ضحاياه وأقرب من يدفع الثمن في كل الظروف ولا يجب تحميلهم ذنب ما تقوم به الموجات الإرهابية حتى ولو كانوا شركاء في دين واحد، فالإنسان مسئول عن تصرفاته وحده ويتحمل تبعة خطاياه دون غيره، ولتحتضن الدول الآسيوية الشقيقة الأقليات العددية فيها انطلاقًا من حضارات القارة العجوز بتاريخها الطويل وفلسفاتها المتراكمة وأفكارها الكبرى.
هذه خواطر أردت أن ألفت النظر إليها لما يدور في خلدنا أحيانًا من خواطر تجاه ما يتواتر من أنباء عن معاناة الأقليات المسلمة في بعض الدول الآسيوية مؤكدين أننا ندافع عن حقوق الأقليات إسلامية أو غير إسلامية بلا تفرقة، فالإنسان هو خليفة الله في الأرض مهما كانت قوميته أو لونه السياسي أو ديانته ومذهبه الطائفي.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 7 أبريل 2020