يعرف أصدقائى وزملائى غرامى الشديد بفاكهة البطيخ، وقد شاع هذا الأمر لدى الكثير من العاملين فى مؤسسة الرئاسة، وفى يوم خميس فى أحد شهور الصيف ذهبت إلى الرئيس «مبارك» أستأذن فى قضاء يوم العطلة مع أسرتى بعيدًا عن استراحة برج العرب، حيث كان يُقيم، فقال لى: «وما الداعى لأن تسافر ثم تعود! امكث هنا، واسترح كما تشاء»، ولما ألححتُ عليه قال لى -ومن المعروف عن الرئيس الأسبق أنه خارج العمل لطيف المعشر وودود ومحب للآخرين- إنه يشترط أن ألتهم بطيخة كاملة؛ لأنه عرف أننى مُولع بالبطيخ من بين فواكه الصيف.
ونادى على الحاج «علوانى» السفرجى، فأحضر بطيخة متوسطة الحجم، وبدأ فى تقطيعها لى أمام الرئيس، وقرَّرتُ أن أبدأ بالجزء الأفضل، وهو قلب البطيخة، ولكن الحيلة لم تنطلِ على الرئيس، وقال: «إنكمُطالب بأكلها كلها»، وبدأ الحاج «علوانى» فى تقطيعها كاملةً، وبالفعل التهمتها كلها مُكرهًا، ثم بدأت لدىَّ آلام فى البطن، وشعور بالغثيان، وقضيتُ يومى العطلة فى دورة المياه باستراحة برج العرب، وكان الرئيس شامتًا فى لُطف ورقِّة متسائلاً: «لماذا لم تقُم بإجازتك؟ أنا موافق!»، ولكن كان ذلك صعبًا للغاية فى ظل الآثار الجانبية لالتهام بطيخة كاملة، وظلت هذه القصة موضع تندُّر فى أروقة الزملاء من العاملين فى سكرتارية الرئيس.
ولقد آمنتُ يومها بأن لكل شىءٍ حدًّا مُعيَّنًا مهما كان تعلُّق المرء به؛ فحتى البطيخ الذى أعشقه سبَّب لى حالةً من الإشباع والرغبة فى القىء والمُرابطة فى دورة المياه، فالشىء الذى يُحبُّه الإنسان إذا أسرف فيه انقلب عليه، فالوسطية هى صمام أمن الحياة، وهى فلسفة الوجود.
ولقد رويت قصةً أخرى حول البطيخ أيضًا، ولكن مع الرئيس «صدام حسين» حين سألنى الرئيس «مبارك» على مائدة الغداء بين الجانبين المصرى والعراقى فى بغداد: «هل تناولت البطيخ؟»، وكان ذلك فور أن فرغنا من طعام الغداء، فقلتُ له: شكرًا يا سيدى الرئيس، إلا أن الرئيس «صدام» حمل بيديه طبقًا كبيرًا مليئًا بالبطيخ ووقف مُتَّجهًا نحوى؛ عندئذٍ لم أدرِ ماذا أفعل، إذ إنه عندما وقف «صدام» وقف كل المرافقين من قادة عسكريين، ووزراء، أما الرئيس «مبارك» فقد استغرق فى الضحك؛ لأننى ارتبكتُ جدًّا، وبدأتُ أكرِّر عبارات الشكر للرئيس العراقى، مؤكدًا له أننى قد أخذتُ كفايتى من تلك الفاكهة، وشكرته وأنا فى حالة ارتباك بسبب الإحراج الذى شعرتُ به وردِّ الفعل التلقائى من جانبى تجاه المجاملة الزائدة من الرئيس العراقى بإيعاز ضاحك من الرئيس المصرى.
وما أكثر النوادر التى تعرَّضتُ لها بسبب تلك الفاكهة المستديرة؛ فلقد بدأتُ تذوُّقها وأنا طفلٌ فى شهر رمضان أثناء الصيف حتى ارتبطت فى ذهنى بأنها من لوازم ذلك الشهر الكريم، وعندما تحرَّك شهر رمضان نحو الشتاء اختفى البطيخ، وكنت أتساءل فى براءة الطفولة: أين بطيخ رمضان؟ ومنذ ذلك الحين وأنا عاشقٌ لتلك الفاكهة التى تروى الظمأ، وتُشعر بالانتعاش مهما كانت درجة الحرارة الشديدة.
وعندما عملتُ فى الهند تعلَّمتُ كيف أعرف البطيخة الناضجة ذات المذاق الجيد من غيرها، فالبطيخة التى توجد فيها بقعة صفراء على قشرتها من الخارج تكون هى الأفضل؛ لأن ذلك معناه أنها قد استوت مُبكِّرًا ونامت على جنبها، كما أنه من الأمور المهمة فى فهم تلك الفاكهة التركيز على البطيخة ثقيلة الوزن بالنسبة لحجمها؛ لأن ذلك يعنى أن كثافتها عالية، أى إن درجة التركيز من الداخل قوية ولا توجد بداخلها فراغات، وبالتالى فإن حلاوة الطعم تزداد، وكنتُ –ومازلت- مؤمنًا بأن تلك الفاكهة «مبروكة»؛ لأنها تروى العطشان، وقد يأكلها الفقير ويدفع بقشرها وجبة شهية لحماره! كما أن البطيخ الناضج مع الجبنة البيضاء وجبة صيفية معقولة؛ إذ إن ألياف البطيخ تساعد على الهضم، وتنظف الأمعاء، وتُعالج كثيرًا من المتاعب الصحية شريطة أن يأكلها الإنسان باعتدال، لا أن يلتهم بطيخة مرة واحدة كما حدث لى فضاعت منى عطلة نهاية الأسبوع، وقضيتُ ساعاتٍ متألمًا.. إن الاعتدال هو أفضل الطرق لتفادى المتاعب والآلام!
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 ايام العدد 240
تاريخ النشر: 24 أغسطس 2017
رابط المقال: https://www.7-ayam.com/%d8%a8%d8%b7%d9%8a%d8%ae%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%8a%d8%a7%d8%b3%d8%a9/