لا يدرك المرء قيمة الحياة الطبيعية إلا عندما يتعرض لظروف استثنائية، فقد قالوا مثلًا إن الصحة تاج على رؤوس الأصحاء ولكن لا يراه إلا المرضى، وقالوا أيضًا رُب يوم بكيت منه فلما مضى بكيت عليه، وقس على ذلك عشرات الأفكار التى يموج بها العقل فى ظروف الحبس الإجبارى الذى فرضه ذلك الفيروس الصغير على البشرية كلها دون استثناء، وقد تذكرت كم كانت حياتنا منذ عدة شهور حياة هانئة وراضية، كان معدل النمو الاقتصادى المصرى يتزايد والرصيد الاحتياطى يرتفع وبعض الأسعار تتجه للانخفاض أو الثبات على الأقل، فضلًا عن جهود جبارة يبذلها رئيس الدولة ومعاونوه فى كل المجالات والقطاعات وهم يلهثون وراءه فى صراع طاحن يختصر الزمن بالانتماء لوطن من أعرق الأوطان ومحاولة الخروج به من عنق الزجاجة فى أقرب وقت، ولقد كان هناك شعور عام بالجدية والقدرة على مواجهة التحديات والسعى لتحقيق الغايات، ولكن ما جاء به فيروس كورونا على كل أسرة فى العالم قد جعلنا نتردد كثيرًا فى فهم ما يدور وفك طلاسمه، وأصبحت الإنسانية كلها تتأرجح على خيط رفيع من المعلومات المكررة والأخبار المتشائمة، وذلك يدفعنا إلى:
أولًا: ضرورة التصدى العلمى والاقتصادى والثقافى - تحت مظلة سياسية واحدة - ضد ذلك الخطر الداهم الذى هدد البشرية بشكل غير مسبوق وضرب الدول المختلفة بلا استثناء، حتى تصور البعض أنها محاولة مجهولة المصدر لحصد ملايين الأرواح على المدى الطويل وخفض أعداد الجنس البشرى وإحداث توازن بين الأحياء والأموات؛ لأن الأرض قد ضاقت بمن عليها وتراجعت مواردها من الطاقة والمياه والتربة، فضلًا عن التغيّرات المناخية التى أدت إلى ما أطلقنا عليه ظاهرة الاحتباس الحرارى أحيانًا وثقب الأوزون أحيانًا أخرى، فضلًا عن تآكل مساحة اليابسة أمام امتداد مياه البحار والمحيطات، فالعالم محاط بتحديات يدركها الجميع ولكن لا توجد مواجهة شاملة للحد من التأثير السلبى لتلك التحديات.
ثانيًا: يبدو التحدى الذى جاء به وباء كورونا مصدر فزع وقلق للإنسان فى كل مكان، خصوصًا أنه لا يتوقف عند طبقة معينة أو أعمار محددة، ولكنه يسعى وسط صفوف البشر فى خبث ودهاء، يجعلنا نتساءل عن طبيعة المستقبل بعد هذا الذى جرى، فكل شىء أصبح الآن يحمل عنوان ما قبل كورونا وما بعد كورونا، فلن تعود الحياة تمامًا كما كانت، سوف يرحل الوباء وقد تأتى أوبئة أخرى فى سنوات لاحقة وسوف تظل البشرية تتحسب لهذه الأخطار الجديدة وتسعى لمقاومتها بكل ما أوتيت من أسباب العلم، وطرق البحث، ومصادر المعرفة، وسوف تظل مشغولة بذلك لعله يصرفها عن العمليات العسكرية والمواجهات السياسية والصراعات الدولية والحروب الإقليمية؛ كذلك فإن حُمّى التنافس الاقتصادى سوف تبلغ ذروتها كأداة للسيطرة من جانب الصين وحلفائها فى ناحية، والولايات المتحدة الأمريكية فى ناحية أخرى؛ ولكن الجديد هو أن أوروبا لن تكون كما كانت حليفًا طبيعيًا لواشنطن، فالصين اخترقت الصفوف وتركت بصمة لدى بعض الدول الأوروبية، خصوصًا تلك التى عانت من ذلك الوباء الأخير.
ثالثًا: إن أنماط الحياة سوف تختلف تمامًا بعد كورونا ويسيطر التعليم عن بُعد بل والعمل أيضًا عن بُعد، بحيث تختلف طبيعة المؤسسات التعليمية ونوعية الهيئات الحكومية والمنشآت الخاصة مع الاتجاه نحو التركز والممارسات الاحتكارية الدولية؛ ولذلك فإننى أتوقع أن تسيطر المشروعات الكبيرة على المشروعات الصغيرة ويتجه العالم إلى درجة من التنافس الذى لا يترك مكانًا لمشروعات ناشئة، وربما إزاحة الاقتصاديات البازغة أيضًا، سباق سوف يكون محمومًا وصراع سوف يكون شرسًا بعد أن ذاق الأحياء طعم الموت يحصد الأرواح محمولًا على وباء شرس فى هذا العصر المتقدم من حياة البشرية.
إننى أريد أن أقول إن التنبؤ الدقيق بما هو قادم أمر صعب ولكن الذين يستشرفون المستقبل يدركون أن هجمة وباء كورونا عام 2020 سوف تظل علامة فارقة فى حياتنا، وقد تؤدى إلى تضامن دولى أكبر وهذا ما نتمناه، كما قد تؤدى إلى صراع عالمى عنيف وهذا ما نخشاه، فكل الاحتمالات مفتوحة ولكن الشىء المؤكد هو أن العالم بعد كورونا يختلف عنه قبلها!.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1972825