سوف تظل دراسة المستقبليات هي الأهم وهي الأولى بالرعاية في كل العصور لأنها تقدم تصورًا لما هو قادم في وقت توالت فيه المفاجآت وتنوعت الأحداث حتى ظن البعض أن ما يجري لنا هو عقوبة إلهية نتيجة الخروج عن ناموس الوجود، واستخفافنا بالمقاصد الحقيقية للديانات المختلفة، وانغماس بعضنا في التصرفات اللا أخلاقية والأفعال الشاذة حتى ظن البعض أن العلم الحديث يتكفل بتأديب الطبيعة وإخضاع البحار والمحيطات والأجواء وتثبيت أوضاع الأرض ومن عليها فإذا بنا نرى من آياته عجبًا، من كان يتصور أن ذلك الفيروس اللعين يمكن أن يقلب الدنيا رأسًا على عقب وينقلنا من مرحلة في الحياة إلى مرحلة أخرى؟ لذلك فإننا نتصور أن سيناريوهات المستقبل سوف تطرأ عليها تحولات مختلفة نذكر منها النقاط التالية:
أولًا: سوف يسعى الآباء الكبار للنظام الرأسمالي المعاصر من ورثة روتشيلد وروكفلور وغيرهم إلى عملية نقد ذاتي ومراجعة شاملة لاقتصاديات العصر وموارده الطبيعية والبشرية في ظل المفاجآت الكبرى مثل تلك التي عرفها العالم في نهاية عام 2019 ومطلع عام 2020 عندما انطلق الفيروس من إحدى الولايات الصينية واجتاح العالم في شهور قليلة، وسوف يدرك دعاة الرأسمالية أن الدنيا قد تغيرت وأن العالم قد تحول وأن عليهم أن يتعاملوا مع الواقع الجديد واضعين في الاعتبار كل الاحتمالات ومتحسبين لكافة الكوارث، ولست أنشر بذلك روح التشاؤم ولكنني ألفت النظر إلى أهمية الحياة وفقًا لتوقعات السيناريو الأسوأ؛ إذ أنه لا يوجد شيء مضمون في رحلة الوجود فكل قادم نسبي إلا المطلق الوحيد وهو الموت.
ثانيًا: يتعين على الساسة والحكام مراجعة الأطر التقليدية لنظم الحكم وسياسات الدول فلم يعد هناك نظام أمثل حتى أن البعض يرى أن الكورونا قد كتبت شهادة وفاة الديمقراطية بمفهومها الغربي؛ لأن مسئولية الدولة في ظل الأوضاع الجديدة تخترق حريات الأفراد وأنماط النشاط الخاص وتلزم الجميع بأن يكونوا على بينة مما يدور على اعتبار أن المسئولية الجماعية تطفو على السطح وتعلو على الكل.
ثالثًا: إن الأفكار التقليدية لإدارة الأموال كما آمن بها أباطرة الديمقراطية الغربية والاقتصاد الحر تقف اليوم عاجزة أمام ما جرى حتى أن دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية تتصرف حاليًا برعونة في مواجهة منظمة دولية - مثل منظمة الصحة العالمية - في ظل أوهام الماضي والإحساس بأن المستقبل يفلت من أيديها لأن الحاضر كشف إمكاناتها المحدودة في قطاع الرعاية الصحية مع تركيزها على بعض الممارسات الاحتكارية مثل تجارة السلاح وتصنيع الأدوية وغيرها من صور النشاط الاقتصادي الذي يعتمد على استغلال ظروف البشر مع إسقاط القيم الأخلاقية والسعي في توحش كامل نحو سحب المليارات شهريًا من جيوب فقراء العالم ومحتاجيه.
رابعًا: إن عودة العالم إلى موجات من التدين والاعتصام بالدعوات الروحية سوف تكون تأكيدًا لحالة الخوف التي استبدت بالبشر والقلق الذي عانى منه الجميع خصوصًا بعد أن اكتشفت الدول المختلفة أن الأوبئة لا كبير عليها ولا غني أمامها، فالدول الأغنى والأكثر ثراءً كانت أكثر تضررًا من دول فقيرة ذات موارد محدودة؛ ولذلك فإن قانون الطبيعة يوزع المصائب على قدر الإمكانات وهي فلسفة غابت عن روح العصر حيث تحولنا إلى غابة حقيقية يلتهم فيها القوي الضعيف ويستبد فيها الكبير بالصغير.
خامسًا: إن ما جرى يشبه إلى حد كبير في نتائجه الحروب العالمية ويجعلنا أمام بروفة يوم القيامة، فالذي حدث كان بحق هو الحرب العالمية الثالثة بل أشد وطأة وأكثر تأثيرًا؛ لأن الحروب العالمية لم تدخل كل بيوت البشر ولم تصل إلى كل أسرة، أما كارثة كورونا – على سبيل المثال – فقد قدمت نمطًا جديدًا من المتاعب والآلام التي تصل إلى أي فرد مهما كانت حصانته أو امتلأت خزانته، فالثروة وحدها لا تضمن استمرار الحياة ولا تجلب بالضرورة السعادة الحقيقية؛ إذ أن الإحساس بالأمان والابتعاد عن الخوف هي شروط جوهرية لفتح طريق الأفق أمام الجماعات والأفراد نحو حياة أكثر استقرارًا وأقل خوفًا.
سادسًا: يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية قد تصورت أنه يمكن لها الخروج ببعض المكاسب من زمن كورونا بحكم ريادتها للعالم الحر ورغبتها الدائمة في السيطرة على كل بقاع الأرض؛ لذلك فإنها دفعت بعدد من الإرهاصات التي تدين الصين وتتهمها بالتقاعس في الفترة الأولى لحضانة المرض بل وتشير صراحة إلى تواطؤها مع منظمة الصحة العالمية وتتهم مديرها الإثيوبي بالعمالة لبكين، ومثل هذه الأمور متوقعة خصوصًا وأن الصين خرجت بعدد من المكاسب الاقتصادية من كارثة كورونا منذ بدايتها.
سابعًا: سوف تنعكس آثار وباء كورونا على السيناريوهات السياسية لمستقبل العالم فقد نشهد تحالفات جديدة بل وميلاد عداوات أخرى وضعف اتحادات دولية وفي مقدمتها الاتحاد الأوروبي لأن محنة كورونا قد علمت الجميع دروسًا جديدة لم تكن مطروحة من قبل، وقس على ذلك عشرات الأمثلة والنماذج لتغيرات قادمة خصوصًا وأن التحالفات الجديدة ليست بالضرورة كاملة ولكنها قد تكون ناقصة بحيث تشترك مجموعة من الدول في توجه معين ترتبط به وتختلف على أمور أخرى لا تتمسك بها، وأتصور أن هناك تقاربًا صينيًا روسيًا - على أسس قومية وليست أيديولوجية - سوف يطرح نفسه من جديد.
إن التنبؤ بالمستقبل أمر تحفه مخاطر كثيرة ولكننا نحاول قراءته من خلال بعض المؤشرات التي يمكن المضي وراءها للوصول إلى نتائج محددة، ولكن الجزم بها أمر يجافي طبيعة البحث العلمي أو الدراسة الموثقة إلا أننا نستطيع أن نقول أن سيناريوهات المستقبل سوف تكون بالضرورة مختلفة عما عرفناه في العقود الأخيرة!
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 5 مايو 2020.