استعرت العنوان من الفيلم الأمريكي الشهير لأنه يجسد جزءًا من الحالة العامة التي يشعر بها مئات الملايين في أنحاء العالم، ولقد سيطرت علي في أسابيع الحظر والتواجد في المنفى الاختياري داخل المنزل أن أفكر طويلًا فيما كنا عليه وما سوف نؤول إليه، يبدو أننا كنا نتمتع بحد أدنى من السعادة في ظل الحياة الطبيعية قبل أن يهل علينا هذا الوباء المدمر ولكننا لم نكن نشعر بذلك تمامًا، فقد كنا نشكو وننتقد ونحزن فإذا ذلك الفيروس شديد الضآلة يغير حياتنا مائة وثمانين درجة في الاتجاه الآخر، وقد حاول بعضنا الهروب إلى الماضي بأن يعيش حياته الطبيعية كما لو أنه لا يعبأ بالفيروس ومخاطره فكانت النتيجة قاسية وموجعة، والبعض الآخر توهم أنه يمكن أن يهرب إلى المستقبل مفترضًا أن الوباء اللعين في طريقه إلى الزوال السريع وأن على الإنسان أن يمارس حياته الطبيعية أيضًا، وكأنما يؤدي الهروب الكبير في الاتجاهين الماضي والمستقبل إلى نفس النتيجة ولكن تمزقها معاناة الحاضر ومخاوفه وحالة القلق التي تسيطر على الجميع، ثم تذهب السكرة وتأتي الفكرة فإذا المرء يصطدم بالواقع مكتشفًا أن الدنيا تتغير حوله وأن البشر أشد بؤسًا وأكثر قلقًا في ظل صراعات دولية كبرى وحسابات علوية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية على نحو يحمل مخاطر جديدة لا تقف عند حدود الوباء ولكنها تتجه أيضًا إلى أعلى درجات العداء، وفي ظني أن الاختلافات الثقافية بين القوى المحتشدة على المسرح الدولي تمارس تأثيرها الخطير على المستقبل، فالثقة المفقودة والمخاوف المتبادلة تلعبان دورًا حاسمًا في تشكيل رؤية الناس لمستقبل الجنس البشري على هذا الكوكب، ومهما قيل من عبارات التفاؤل أو صدمات التشاؤم إلا أننا في النهاية أمام حصاد واحد وهو الشك في كل شيء وإعمال نظرية المؤامرة عند تحليل كل موقف مع غموض يصاحب بداية ظهور الوباء ويلازمه حتى الآن، ولذلك فإنني أطرح ثلاثة أفكار رئيسة في هذا السياق:
أولًا: إن مستقبل الجنس البشري مستقبل مشترك، ولن يحمل المستقبل القريب مثل ذلك الذي حمله بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية بين منتصر ومهزوم بل ستكون النتيجة هي البقاء المستقر رغم احتمالات الحديث عن الفناء القادم فقد بلغت البشرية شأوًا كبيرًا على طريق التقدم العلمي والبحث المعملي في المختبرات العلنية والسرية حتى أصبحت المعرفة أحد الأسرار الكبرى والأسلحة الخفية لكل دولة في مواجهة غيرها، لم تعد قضية التسليح ولا قوة العتاد ولا التباهي بالأعداد هي الفيصل وإنما أصبحت هي الدرجة التي بلغتها الدول ووصلت إليها القوميات في سباق محموم من أجل الإمساك بآليات التكنولوجيا الحديثة والعلم المتقدم والمعرفة الشاملة، وفي ظني أن الصين - تلك الدولة المغلقة سياسيًا، المنفتحة اقتصاديًا - تدرك ما نشير إليه جيدًا من رغبتها في السيطرة على آسيا وإفريقيا وربما أوروبا في مواجهة النفوذ الأمريكي على الجانب الآخر من المحيط وتأثيرها في الحياة السياسية والثروة الدولية في العقود الأخيرة.
ثانيًا: إن مخاطر الأوبئة ليست جديدة على البشرية ولكنها تراجعت في العقود الأخيرة بمنطق التقدم الصحي وتفوق الطب الوقائي، وها هي تطل من جديد على البشر لتذكرهم أن الكوارث الطبيعية من زلازل وبراكين، وفيضانات وسيول لا تقف وحدها خطرًا أمام الإنسان ولكن تشاركها عوامل أخرى مثل الاحتباس الحراري ونتائج اختلاف المناخ مع ندرة مصادر الطاقة وشح المياه وتلوث البيئة وغير ذلك من مظاهر الأخطار التي تحيط بنا، ولم يقف الأمر عند هذا الحد من كوارث طبيعية ومشكلات يعاني منها الكوكب الذي نعيش عليه ولكن امتد الأمر أيضًا إلى مخاطر أخرى تتصل بتوليد جراثيم جديدة وتخليق فيروسات لم تكن معروفة في تهديد مباشر للحياة على الأرض بعد أن قطعت الإنسانية شوطًا طويلًا إلى الأمام حتى تصورنا أنه لن يأتي علينا يوم نواجه ما واجهناه في عام 2020.
ثالثًا: إن معدلات الزيادة السكانية على كوكب الأرض تنذر بانفجارات متوالية قد لا تتوقف أبدًا، فالصراعات مستمرة والحروب الإقليمية قائمة والمواجهات العالمية محتملة ولذلك فإنه من العسير التنبؤ بشكل قاطع بما يمكن أن نصل إليه، فهل تحتمل الأرض والفضاء والأنهار والبحار والمحيطات تلك الزيادة التراكمية بمتواليات هندسية في أعداد البشر من كل الأجناس وكافة القوميات، ليست الإجابة سهلة لأن موارد الأرض لن تظل متجددة كما نتوهم، وسوف يواجه العالم على مستوىً أممي حالة من العجز عن الوفاء بالالتزامات المطلوبة للشعوب المختلفة، وإذا كانت دورة الحياة بين الكائنات قد سمحت عبر ملايين السنين باستمرارها إلا أن الاختلال في التوازن البيولوجي لا يقل خطورة عن الصراع الأيديولوجي بين الأمم والشعوب، ونعود فنقول إن صراع الحضارات لم يكن وهمًا مطلقًا ولكنه كان إنذارًا حقيقيًا لحروب خفية تقوم بحق على صراع الحضارات ونزاعات البشر وصدام الأفكار.
إن الهروب الكبير الذي نتحدث عنه يكون في البداية نوعًا من محاولة الدخول في شرنقة فردية يتصور المرء أنه يعيش فيها بعيدًا بينما الواقع يقول لنا صباح مساء إن حياتي وحياتك مرتبطان وأنه لن يعيش أحدنا على حساب الآخر، فليكن التضامن الإنساني والتعاون البشري صمامان للأمن في المستقبل على نحو يكفل الغذاء والكساء والمسكن بل ويستدعي مظاهر رفاهية عند حد معين.. لن تعيش أمة على حساب غيرها، ولن تنتصر حضارة على سواها، فالتواصل والتعاون، وتبادل الخبرات، والمعارف والمعلومات هو الأمل الوحيد لكوكب متماسك على أرض نعيش فيها وسوف نستمر عليها حتى لو خرج منا من يتآمر ضد الجنس البشري ويدبر له أسباب التهلكة ومقدمات الفناء، أقول ذلك وأنا لست أسير التفسير التآمري للتاريخ ولست أيضًا حبيس الإطار التقليدي للأوهام مهما كانت التفسيرات ومهما تضاربت المعلومات ومهما ترددت الأقوال حول المؤامرات!
نشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 26 مايو 2020.