سار جدل صاخب في الشهور القليلة الأخيرة حول نظرية المؤامرة في تفسير أحداث التاريخ وذلك بمناسبة سيطرة الوباء القاتل على العقول بما يحمله من غموض البداية وكارثية المسار وتضارب الآراء حول النهاية، ولقد انقسم المعنيون بالأمر بين اتجاهين أحدهما يرى أن الوباء هو نمط جديد من أوبئة اجتاحت البشرية في فترات مختلفة من تاريخها الطويل، فقد عرف الإنسان أنواعًا من الأمراض المعدية كالطاعون، والجدري، والكوليرا، والسل، والإنفلونزا بأنواعها كما عرف أيضًا أمراضًا قاتلة لا تنتقل بالعدوى ولكنها تنشأ عن صراع ذاتي بين الخلايا في أنسجة الجسد وأقصد بذلك مرض السرطان كما عرف الإنسان في العقود الأخيرة مرضًا آخر يأتي غالبًا من خلال العلاقات غير المشروعة أو غير الطبيعية وأعني به مرض الإيدز، وأمام هذه الأوبئة والأمراض وعشرات مثلها لم نجد فريقًا يخرج عن السياق ويرى مثلما رأى البعض أن الكورونا وباء مستحدث ومصطنع وأنه جاء نتيجة خطأ في بعض التجارب المعملية لتخليق فيروسات قاتلة تستخدم عند اللزوم، وفي ظني أن الأمر أكبر من ذلك وأشمل فهو يؤكد بوضوح أن الثقة مفقودة، وأن الشك متبادل، وأن النوايا ملتبسة وأحسب أن الأمر يحتاج إلى إجلاء لمفهوم نظرية المؤامرة في تحديد مسار التاريخ وتفسير أحداثه لذلك فإننا نطرح الآراء التالية:
أولًا: إن التفسير التآمري على إطلاقه هو جريمة فكرية وعدوان على فلسفة التاريخ التي تستند غالبًا إلى العقل والمنطق وتمضي وسط صراعات تقوم على الفعل ورد الفعل فدهاء التاريخ أكبر مما نتصور وأخطر مما ندرك؛ كما أن الارتكان إلى التفسير التآمري للتاريخ يعني الاستسلام المطلق للتفكير العشوائي والسقوط في مستنقع اللاوعي والاعتراف بالهزيمة قبل أن تبدأ المعركة؛ إذ أن ذلك التفسير يعني أن كل شيء يخضع لفكر المؤامرة وثقافة الخديعة وهما بالمناسبة موجودان في كثير من زوايا التاريخ وخفاياه ولكن من العبث التسليم المطلق بهما والاعتماد الكامل عليهما.
ثانيًا: إنه رغم عدم حماسي للتفسير التآمري للتاريخ إلا أنني أزعم أن المؤامرة موجودة في المسار الإنساني منذ بدايته بدءًا من الجريمة الأولى في فجر ميلاد البشرية عندما قتل الأخ أخاه ورأى غرابًا يدفن موتاه فقلده الإنسان فيما فعل كما تحكي القصص أو تروي الأساطير، وإلى يومنا هذا والمؤامرة قائمة، فهناك من يرى أن سقوط الخلاقة الإسلامية التي كان العثمانيون يمثلون آخر حلقاتها كانت عملًا تآمريًا ضخمًا شارك فيه مصطفى كمال أتاتورك ابن إقليم سالونيك اليوناني بل ويشكك الكثيرون في الأصول الدينية للغازي مصطفى كمال، كما أن سقوط الاتحاد السوفيتي السابق وانهيار الكتلة الشيوعية يراه البعض أيضًا نتيجة مؤامرة طويلة بدأت بحركة التضامن التي دق فيها (فاونسا) أول مسمار في نعش منظومة الدول الشيوعية مدعومًا من البابا الراحل يوحنا بولس الثاني بمساندة من أجهزة الاستخبارات الغربية مع دور بريطاني أسهمت فيه المرأة الحديدة (مارجريت تاتشر)، وهناك أيضًا عشرات الأحداث التي ينطبق عليها الأمر، فمقتل رئيس الولايات المتحدة الأمريكية (جون كيندي) عام 1963 هو الآخر مؤامرة محبوكة للغاية ولازالت غامضة حتى اليوم وقد تظل كذلك؛ بل إن هناك من غلاة المتطرفين من يشيرون في تردد وخوف إلى سقوط برجي التجارة في نيويورك عام 2001 باعتباره أيضًا عملًا تآمريًا واسع الآفاق معقد الأبعاد أدى إلى تحول جذري في السياسات الدولية والإقليمية، وأستدرك هنا فأقول ربما لا يكون الأمر كله كذلك ولكنني أدعي أنها تفسيرات تعشش في عقول كثير من البشر بل ونسبة لا بأس بها من المؤرخين والمعنيين بدراسة فلسفة التاريخ.
ثالثًا: إننا يجب أن نسلم بأن التفسير التآمري للتاريخ على إطلاقه هو جريمة فكرية كما أن إنكار وجود المؤامرة وراء كثير من أحداثه هي الأخرى جريمة على الجانب الآخر؛ إذ أن الأمر في ظننا يقوم على أن الصراع بين البشر وصدام المصالح بين الدول بل والأفراد يؤدي بالضرورة إلى ميلاد فكر المؤامرة وتطبيق أبعادها، ولكن ذلك لا يعني إطلاقًا أنها المتغير المستقل لحركة التاريخ أو أنها المؤشر الأوحد لأحداثه الجسام بل يجب أن نقرر في شجاعة أن التفسير الحقيقي للتاريخ يقوم على التسليم بوجود المؤامرة أحيانًا ولكنه يرفض إقحامها في تفسير كل ما جرى بلا وعي أو دراسة لأن ذلك يعني عملية تسطيح للواقع وتشويه لإرادة البشر.
هذه رسالة موجزة أوجهها وسط الجدل الدائر بين من يتحمسون للتفسير التآمري للتاريخ، وبين من ينكرون وجود المؤامرة فيه أصلًا، ولست أزعم أنني أستطيع الانحياز لأي الرأيين انحيازًا كاملًا ولكن دعني اعترف ان هواجس كثيرة قد بدأت تتقمص شخصيات عديدة من المثقفين والمفكرين والعلماء الذين بدأوا نتيجة لأحداث كورونا المؤلمة يدركون أن في الأمر شيئًا لا نعرفه حتى الآن وأن هناك مسافات فارغة بين السطور تطرح تساؤلات كثيرة تجعلنا نفكر بأسلوب مختلف لا يخلو من قلق وشك وخوف من المستقبل وما يأتي به، إن البشرية في مفترق الطرق فإما أن تمضي وراء الأوهام والأخبار المرسلة والشائعات المغرضة حتى تنعدم الثقة بين الكيانات البشرية من أمم ودول ومجتمعات أو نصبح في حالة ضبابية لا يستطيع أحد التنبؤ بما يمكن أن تنتهي إليه، إن الاستغراق في التفسيرات الهلامية والتحليلات المتضاربة والأخبار المتناقضة قد أصبح عبئًا علينا يفوق عبء الوباء ذاته ذلك فإنه لابد من نظرة موضوعية وفكر سليم لترشيد رؤيتنا حول القضايا الأساسية وفي مقدمتها مستقبل البشرية ذاته والذي أصبح الآن في مهب الريح!
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 23 يونيو 2020