لقد انتصف واحد من أصعب الأعوام.. وهو يذكرني بالحكمة الخالدة (رُبَّ يومٍ بكيت منه فلما مضى بكيت عليه)، لذلك فإنني لا أجازف بالقول أن البشرية قد بلغت في الشهور الست الماضية أسوأ ما توقعته، ولكنني لا أجازف إذا قلت إنها كانت من أصعب الشهور على البشرية في القرن الأخير، فلقد سقطت ضحايا وغادَرنا كثير من الأحباب والأصدقاء شهداء لوباء لعين انتشر كالنار في الهشيم ليدمر البشر دون الحجر وليحدث إرباكًا شديدًا في حياة الناس على نحو لم نشهده من قبل، حتى أننا أصبحنا نقول إننا قبله كنا سعداء وأحرارًا أما بعد ظهور ذلك الوباء فإن السعادة غابت والحرية قد تقلصت، ولقد قالوا لنا إنها دورة مئوية في كل قرن وأن نذرًا شبيهه قد وقعت عام 1920 بعد انتهاء الحرب الكونية الأولى، وأنا ممن يؤمنون بأن المضي وراء هذه التأويلات عبث لا طائل منه، ورغم قوانين الوجود ونواميس الحياة إلا أنه لا توجد شواهد علمية أكيدة على تواتر الأحداث وتواليها بشكل هندسي منتظم؛ إذ أن عظمة الخالق هو أنه يحيل الاختلاف إلى ميزة والتعدد إلى رحمة ولا يضع تعريفًا جامعًا مانعًا لحدث معين ولا يقنن تكراره، وأنا أتذكر أنه في عام 1920 جاء أبي إلى الوجود بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وأنني ولدت في آخر عام 1944 قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية وها أنا ذا أشهد ومعي الملايين من الأجيال المختلفة حدثًا لم نعهده أو على الأقل لم نتوقعه؛ لأن الأوبئة ليست أمرًا جديدًا على البشر ولا زائرًا مفاجئًا للشعوب ولكننا تصورنا وربما توهمنا أن التقدم العلمي والثورة الهائلة في عالم الطب العلاجي والوقائي قد حسمت الأمر، ولكن يبدو أننا كنا مفرطين في التفاؤل، نحسن الظن المطلق بمراكز الأبحاث العلمية مؤمنين بأن العلم يعمل لصالح الإنسان وأن العلماء هم الملائكة الذين يظللون الأرض بعبقرياتهم وعقلياتهم لا يعرفون التواطؤ ولا يشاركون في تآمر، وربما كان ذلك صحيحًا عبر مسيرة الإنسانية ولكننا بدأنا الآن نتشكك في الأمر على إطلاقه وشعرنا أن الأصابع البشرية قد شاركت في الكارثة التي حدثت والتي لم تتوقف بعد وقد لا تكون نهايتها قريبة، فلقد أدركت قوى الشر أنه يمكن تركيع الدول ومعاقبة إنسان العصر حين يريدون ذلك بحثًا عن عالم جديد تختفي منه المشاعر والعواطف بل وقد تتوارى فيه القيم والأخلاقيات؛ لذلك فإنني أرى أن عام 2020 هو عام فيصل نقلنا من التفاؤل الطيب إلى التشاؤم المفرط، إنه عام يجسد بداية فصل جديد من فصول حياة البشر ويحدد الخطوط العريضة والملامح الكبرى لما سوف يكون عليه الكون الذي نعيش فيه لا في العقود القادمة فحسب ولكن في القرون التالية أيضًا، وأنا أظن أن العلاقات بين الدول والمواجهات بين الجيوش والاعتماد المفرط على عنصر العمل كعصب لعملية الإنتاج هذه كلها سوف تخضع لمراجعة شاملة وفقًا لما هو قادم، سوف يكون التنافس بين العمالة البشرية والإنسان الآلي في جانب ونتائج الذكاء الاصطناعي أيضًا في جانب آخر، سوف تتغير عناصر الإنتاج التقليدية لتحل محلها معطيات جديدة بعضها عرفناه وبعضها لا نزال نترقب التسليم به، لقد قرأت مؤخرًا أن إحدى الشركات العالمية الكبرى لم تستطع إعداد دراسة توصيف لمتطلبات الوظائف لديها عام 2030 أي بعد عشر سنوات فقط لأنه لا توجد معلومات قاطعة عن طبيعة الاختراعات الجديدة والبدائل المتاحة أمام العنصر البشري، إننا بحق أمام نتاج حرب عالمية كبرى لم تقع وأمام تطور هائل في حياة الأفراد والجماعات في كل مكان، إننا أمام زلزال 2020 وتوابعه التي لم تتضح بعد وسوف نواجه شئنا أم أبينا أفكارًا جديدة وأطروحات متعددة لعالم جديد يشير إلى حجم مختلف لعدد سكان البرية ومفاهيم موحدة وفقًا لتعليمات ملزمة تقيد حركة البشر وتلغي نهائيًا عوامل الخصوصية في حياتنا وربما تفتح صفحة جديدة لمشاعر مختلفة وعواطف لم تكن موجودة في ظل غموض شامل وضباب يحجب الرؤية.. إن العالم سوف يتغير كثيرًا والحياة سوف تتحول تمامًا ولن ينسى البشر عام 2020 حدًا فاصلًا بين عالمين مختلفين وتوقيتًا لميلاد الدنيا الجديدة وسوف يتحدث أبناؤنا وأحفادنا بعد عشرات السنين عن ذلك، فإذا كنا نحن لا ننسى وباء الكوليرا عام 1947 فما بالنا بتلك المحنة القاسية التي عرفناها عام 2020، فالفيروس المتحور فاق في خطورته وشراسته الأوبئة التي سبقته بدءًا من الطاعون إلى السل إلى السرطان مرورًا بالإيدز وعشرات الأمراض الفتاكة من مثل الإنفلونزا الإسبانية والملاريا بل والجزام ذاته، وكأنما هي رسالة إلهية إلى البشر بألا تغرنكم الحياة ولا تستهويكم الأموال ولا تحميكم الأسلحة النووية، فهذه عظة ودرس لمن يريد أن يعي وأن يتدبر، ولست هنا أدخل في نوبة دروشة ولكنني أطالب بإعادة النظر في فلسفة حياتنا وعلاقتنا بالكون الذي نعيش فيه والكوكب الذي استنزفناه ولوثناه ولم نحسن التعامل معه.
هذه قراءتي للمشهد الذي نمر به؛ وإذا كان الله سبحانه وتعالى يبعث على رأس كل مائة عام للأمة من يجدد لها صحيح دينها فإننا نسأله اللطف حتى لا يكون لدينا كل مائة عام وباء يتجدد ويتمحور ويعبث بالأرواح ويدمر أسباب الرزق ومصادر الأمان إذ أن مخاطر الوباء لا تتوقف عليه وحده ولكن الأخطر منها هو حالة القلق النفسي والتوتر التي شاعت بين البشر منذ جرى تصدير ذلك الوباء إلى شعوب الأرض بغير استثناء!
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 7 يوليو 2020.