عندما كان الكاتب الصحفي موسى صبري والدكتور بطرس غالي والدكتور أسامة الباز يتشاورون حول إعداد مسودة خطاب الرئيس الراحل أنور السادات عشية زيارته التاريخية للقدس عام 1977 استبدل الرئيس السادات بكلمة الأعداء تعبير الخصوم، إذ كان لابد أن يتحدث أمام الكنيست الإسرائيلي بلغة مختلفة توحي ببداية مرحلة جديدة من الصراع العربي الإسرائيلي، والعلاقات بين مصر وإسرائيل بعد الحروب الدامية والعداء العميق الذي دفعت فيه الكنانة ثمنًا باهظًا لأربعة حروب كبرى ضحت فيها بأعز ما تملك من أجل القضية الفلسطينية ومن أجل مواجهة الخطر الصهيوني الذي يستهدف المنطقة كلها مع تركيز خاص على مصر فهي الجائزة الكبرى لكل من يسعى للسيطرة على هذه المنطقة الاستراتيجية من قلب العالم، فهي شريان المواصلات بين آسيا وإفريقيا وأوروبا وهي التي تعيش على ثروة هائلة من النفط والغاز، وهي أيضًا التي تحمل أثقل تراث ثقافي في العالم كله، فهو تراث الديانات السماوية والحضارات الكبرى والثقافات المتعاقبة، لذلك فإن الفارق بين كلمة خصم وعدو تحتاج إلى دراسة وتأمل، فالعدو تعبير قاطع الدلالة ممتد التأثير قد لا يستحب استخدامه إلا بدقة شديدة وعند الضرورة القصوى لأنه لا توجد في الحياة عداوات دائمة ولا صداقات دائمة ولكن توجد مصالح دائمة، وقد أصبح هذا التعبير غير مستحب في العقود الأخيرة حيث أصبحنا أمام سيولة واضحة بين التحالفات مع تداخل ملموس في العلاقات الدولية والإقليمية بفعل الأحلاف الناقصة والسرعات المتفاوتة بين الأمم والدول والشعوب في وقت تعطي فيه كلمة الخصوم الدلالة الكاملة للاختلاف في الرأي وتعارض النوايا بل وإمكانية الشعور بالعداء في المحافل الدولية وعلى مستوى العلاقات الثنائية أو حتى متعددة الأطراف، لذلك فنحن نكتب اليوم في محاولة للتمييز بين المعنيين والتفرقة بينهما، فالخلاف بين عبد الناصر والعرش السعودي كان خصومة بينما الشعبان المصري والسعودي مرتبطان بعمق عبر العصور، وكانت علاقته بإسرائيل هي العداء السافر الذي كان يعبر به عن مشاعر شعبية لا يستطيع أحد في ذلك الوقت إنكارها أو إخفاءها، وواقع الأمر أن معظم الخلافات المعاصرة لا تندرج تحت بند العداء الواضح، فالشعوب تتلاحم، والأمم تلتقي، والدول تتحاور سياسيًا وتتعامل اقتصاديًا ولكن يبقى هناك تعارض مكتوم في المصالح وخلاف ذاتي في التوجهات، وذلك كله يقع تحت بند الخصومة ولا ينبغي إدراجه تحت بند العداء حتى لا نستيقظ ذات يوم فنجد الدنيا حولنا ظلامًا دامسًا مع علاقات مقطوعة وجسور تاريخية جرى نسفها في كل اتجاه، فالحياة تقوم على التواصل الدائم والاحتفاظ بشعرة معاوية بن أبي سفيان داهية العرب والإسلام، فأعداء الأمس قد يصبحون أصدقاء اليوم، وخصوم اليوم قد يتحولون إلى أصدقاء المستقبل، ولنا هنا عدد من الملاحظات:
أولًا: إن الشخصيات الحادة التي لا تترك الباب مفتوحًا بل وتحكم غلق النوافذ إنما تحكم على نفسها وعلى شعوبها بالعزلة والنفي الاختياري من ساحة الحياة وتحرم ذاتها القدرة على المناورة وسهولة الحركة والتغيير وتصبح كيانًا متجمدًا تضيع منه الفرص وتفلت منه المناسبات، لذلك فإنني شخصيًا من دعاة الهروب من العداوات فهي تضخ طاقة سلبية هائلة في وقت تبدو البشرية أحوج ما تكون للطاقة الإيجابية في كل اتجاه، وإذا قسنا الأمر على الخلافات الداخلية في إطار الدولة الواحدة فسوف نجد أنه من العبث ترديد كلمة العداء، فتعبير الخصومة أوفق وأبسط وأقرب إلى الحقيقة كما أنه تعبير مؤقت ليست له جذور بعيدة من الكراهية، ونحن ننادي حاليًا على المستويات الدولية والقومية والمحلية بالخروج من عباءة التراشق العدواني والتوقف عن خطاب الكراهية في كل مناحي الحياة والأنشطة اليومية على كل المستويات.
ثانيًا: لقد علمتنا محنة كورونا في الشهور الأخيرة أننا جميعًا في قارب واحد وأنه لن تنجو دولة غنية وتغرق أخرى فقيرة، كما أن أسلحة الدمار الشامل والعتاد الحديث لن يغنيا أمام تحديات الطبيعة والأوبئة الوافدة التي تكتسح البشر وتبقي على الحجر، إن البشرية تبدو حاليًا أكثر حاجة من أي وقت مضى إلى التضامن الإنساني والتعاون المشترك في مواجهة المخاطر الوافدة علينا، ويكفي أن نتذكر أن مشكلة واحدة مثل التغيير المناخي يمكن أن تؤثر في حياة البشر أضعاف أضعاف أي عداء سياسي أو صدام عسكري أو حتى خصومة عابرة، ولنتأمل في موضوعات نقص الطاقة وندرة المياه والتلوث البيئي والاحتباس الحراري، فهذه كلها مفردات جديدة ظهرت في العقود الأخيرة لكي تؤكد لنا أن الخصومة تكون معها وليست مع غيرنا من البشر في ظل صراعات واهية وعداوات غامضة وخصومات ينبغي أن تزول.
ثالثًا: إن القوى الكبرى في عالمنا والتي تقف وراءها عقول لا تخلو من عبقرية ولا تبرأ من أفكار غامضة تلعب فيها الأجهزة الأمنية والمراكز الاستراتيجية بل والمحافل المرتبطة بتنظيمات تاريخية وجماعات سرية دورًا كبيرًا يسهم في تأجيج الخلافات وترويج الشائعات وإضرام النيران بين الدول وفي المناطق الملتهبة تحديدًا، وإذا كان الصراع هو سنة الحياة وجزء من معطيات الطبيعة إلا أن قدرتنا على توجيهه بل وتهذيبه سوف يعفينا جميعًا من قدر كبير من الجهد والوقت والمال فضلًا عن صيانة الأرواح والحفاظ على الدم البشري مهما كانت الظروف.
لقد تعمدت أن أكتب اليوم عن الفارق بين الخصومة والعداء لأنني أريد أن أنبه أن العداء يستهلك طاقة ضخمة من أطرافه ويؤدي إلى نتائج وخيمة في ساحات الحروب وميادين القتال، أما الخصومة فهي أمر معتاد نقف فيها أمام ميادين الرأي وساحات القضاء، كما أن الحياة تقوم على مبدأين هما الغفران والنسيان، لذلك فإن التمسك بالعداوات وإحياء الخصومات هي محاولات خبيثة لاستنزاف الأطراف وصرف البشرية عن أهدافها الحقيقية نحو مسالك ودروب لا تؤدي في النهاية إلا إلى القطيعة غير المبررة والاتهامات المتبادلة والتراجع على المستوى الإنساني كله.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 4 أغسطس 2020.