سوف يظل صعيد مصر مستودعًا للكفاءات العالية والشخصيات المرموقة ففيه يتركز المخزون الحضاري الكبير للأمة المصرية، فالتاريخ الفرعوني في معظمه قابع على تربة الوادي متحركًا في مسيرة تاريخية من الجنوب إلى الشمال مثلما هو مجرى النيل منذ أكثر من خمسة آلاف عام، وإذا تأملنا تاريخ العبقريات الوافدة من صعيد مصر فسوف نجدها بدءًا من العقاد وطه حسين مرورًا بالمنفلوطي والأئمة الكبار في تاريخ الأزهر الشريف والأحبار المعدودين في تاريخ الكنيسة القبطية، فالصعيد بحق هو الذي يقذف بالرموز الرائعة في تاريخنا بدءًا من مينا موحد القطرين وصولًا إلى عبد الناصر صاحب الكاريزما الفريدة والزعامة الباقية، ونضيف إلى ذلك أسماء من أبناء الأرستقراطية القبطية التي انطلقت من صعيد مصر بدءًا من البيوت المعروفة مثل بطرس باشا غالي ومكرم باشا عبيد وفخري بك عبد النور، ولا ننسى آل سليمان ورمزهم محمد محمود باشا رئيس الوزراء المشهور بصاحب القبضة الحديدية والذي مات في سن مبكرة نسبيًا، وأضيف إلى ذلك عشرات بل مئات الأسماء من النوابه والموهوبين في كافة مجالات الحياة، ولقد تذكرت ذلك كله وأنا أتابع نتيجة الثانوية العامة هذا العام وأرصد - مثل غيري – التفوق الملحوظ لبنات وأبناء الصعيد وتصدرهم للمراكز الأولى بين الخريجين والخريجات، وإذا أضفنا إلى ذلك أن الحياة في بعض مناطق الصعيد أكثر صعوبة وأقل إمكانات فإننا ندرك حجم التميز الذي يجب أن يشعر به هؤلاء المتفوقون، ولنا هنا عدة ملاحظات:
أولًا: إن صعيد مصر كان دائمًا هو الصخرة التي تحطمت عليها أطماع الغزاة والطغاة بل والبغاة أيضًا، وهو الذي التحم بدلتا النيل في مركز التواصل المائي حول العاصمة لكي يكون النماء مشتركًا والتواصل قائمًا، فنحن شعب يعرف الانصهار الكامل والتوحد الحقيقي منذ طفولة التاريخ، وكل الدراسات الحديثة للحمض النووي في خلايا المصريين تثبت أن ما يقرب من ثمانية وتسعين في المائة منهم من أصول واحدة هي المصرية الفرعونية برغم كل الهجرات التي وفدت والتغييرات السكانية مع دول الجوار بدءًا من حوض المتوسط وصولًا إلى حوض النيل ومن المشرق العربي والمغرب العربي، فمصر بحق بوتقة انصهرت فيها كل الدماء التي عاشت على أرضها وارتبطت بتراثها.
ثانيًا: إن صعيد مصر قد حظي في السنوات الأخيرة باهتمامات ملحوظة من الدولة المصرية لأن تنمية الصعيد هي المدخل الواسع لمحاربة الفقر والقضاء على التطرف وضرب أسباب الفتنة طائفية أو فكرية، ولقد لاحظت من رحلتي بالقطار ذات مرة أن مراكز الصعيد هي مدن قديمة قلما تجد فيها من كان قرية ثم تحول إلى مركز وهو أمر شائع في الوجه البحري ولكن مدن الصعيد الرابضة على ضفاف النيل تتميز بالعراقة حيث المكون المصري واضح فيها بشكل لا يختلف عليه أحد، ولعل مدنًا مثل أسيوط بتاريخها العريق، والمنيا بجمالها المعروف فضلًا عن الأقصر وأسوان وهما يحتويان على أهم المواقع الحاضنة لآثار من تاريخنا القديم فضلًا عن سوهاج التي تشترط بعض الدول العربية أن تكون العمالة الوافدة إليها من تلك المحافظة الطيبة، أما بني سويف والفيوم فهما درتان لمصر الوسطى خرج منهما كثير من علماء الدين والدنيا، وتعتبر قنا معقلًا لتاريخ هجرات بعض القبائل من الجزيرة العربية إلى الوادي المزهر على ضفاف النهر الخالد.
ثالثًا: لم يعد الصعيد كما كان من قبل منفى للمغضوب عليهم أو عقوبة للمخطئين ولكنه أصبح الآن بفضل المطارات الجديدة في أسيوط والأقصر وأسوان وسوهاج وغيرها مركز جذب للسياحتين الخارجية والداخلية، كما أن صعيد مصر هو همزة الوصل المباشرة مع السودان الشقيق ونقطة التماس التي تؤكد إفريقية مصر وهويتها الجغرافية قبل أي اعتبار آخر، فالثقافة لغة وجغرافيا يصنعان معًا التاريخ المشترك ويحافظان على الانصهار الدائم.
رابعًا: إن نتيجة الثانوية العامة تعد مؤشرًا لصلابة بنات وأبناء الصعيد وإصرارهم على التفوق وإحساسهم بالمسئولية تجاه أنفسهم وأسرهم والمناطق التي وفدوا منها وخرجوا من نجوعها وقراها، إنني أتذكر الآن الأسماء الرائعة مثل عبد الرحمن الأبنودي الذي أسعد المصرين لعدة عقود ولا زالت أشعاره هي التعبير الأدق عن الشخصية المصرية المعاصرة، وأتذكر زملاء دراستي ومنهم أستاذ الفلسفة نصار عبد الله الذي اتجه لدراسة الأدب والفلسفة بعد أن أتم دراسته معنا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وأتذكر أيضًا زميل دراستنا الوزير المحترم منير فخري عبد النور سليل البيت العريق حيث كان جده رفيقًا لسعد زغلول وواحدًا من الدائرة الضيقة لزعامة ثورة عام 1919 وقد انتهت حياته أثناء وجوده في قاعة البرلمان وكأنما هو شهيد الديمقراطية والحياة النيابية، ولا يجب أن نغفل أن أمين عام الأمم المتحدة الوحيد من العالم العربي وممثلًا للقارة الإفريقية بطرس بطرس غالي بمكانته الرفيعة دوليًا وقيمته المؤكدة وطنيًا هو واحد من عائلة صعيدية كما أسلفنا، ولقد ظللت على مسافة قريبة من تاريخ الصعيد وأنا أكتب أطروحتي للدكتوراه في جامعة لندن عن الأقباط في السياسة المصرية مع أخذ مكرم باشا عبيد كدراسة حالة.
إننا نسجل اعتزازنا بالصعيد وننحني احترامًا لأبنائنا وبناتنا من فتيان وفتيات خرجوا من أعماق ذلك الجزء الغالي من مصر ليسجلوا وجودهم المرموق على ساحة التعليم مؤمنين أن تنمية الصعيد هي شاغل أساس لدى الرئيس والحكومة ورجال الأعمال، فالمصانع قد بدأت والجامعات انتشرت وأصبحنا أمام انطلاقة واضحة للوادي دعمًا للدلتا والعاصمتين الأصلية والجديدة حيث يرتبط الوادي بدلتاه ونستكمل بها مظاهر الحياة معلنين جميعًا أننا لن نفرط في المياه، فالنهر الخالد قد اكتسب تاريخه من مروره بالوادي وفرعين يحتضنان الدلتا في ترحيب بكل قادم إلى الكنانة الملاذ والملتقى حارسة النهر، وحامية التراث، صادقة الوعد، حافظة العهد.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 18 أغسطس 2020