كنت ولا زلت مؤمنًا بأن النظام الحزبي في مصر لا يبدو متماسكًا أو قويًا منذ نشأة أول حزب سياسي في مصر وهو ما نطلق عليه الحزب الوطني القديم، فواقع الأمر أن الأحزاب السياسية المصرية كانت في الغالب تجمعات هشة نشأت بقرار فوقي فافتقدت المصداقية في الشارع ولم تتمكن من تربية كوادر سياسية أو إفراز قيادات للعمل العام بمعناه الوطني الشامل، ولا نكاد نعرف نموذجًا لحزب سياسي نشأ من الشارع وارتبط بالجماهير مثلما هو حزب الوفد في الفترة الليبرالية من عام 1922 إلى عام 1952، فقد كان الحزب في ذلك الوقت هو وعاء الحركة الوطنية والمعبر الرئيس عن نضال الشعب المصري في كل الاتجاهات، وقد قلت من قبل أن ثورة 1919 هي ثورة جماهيرية شعبية اندلعت من البيوت والأسواق وبدأت من الحارات الضيقة إلى الشوارع الواسعة وشملت المساجد والكنائس والمدارس والمستشفيات واستقطبت عموم أطياف الشعب المصري، لذلك استحقت لقب الثورة نتيجة المضمون الشعبي الذي اتسمت به، ولا أكاد أجد نظيرًا لها – دون انحياز أو نفاق – إلا ثورة الجماهير الهادرة عندما خرجت مصر كلها إلى الشوارع لإسقاط حكم جماعة الإخوان المسلمين بعد عام واحد من توليهم السلطة حيث تيقن المصريون ألا جدوى من هذه الجماعة ونواياها وارتباطاتها وفهمها المغلوط للهوية المصرية ونظرتها الضيقة للمستقبل، ولذلك فإنني كنت أتوقع أن نخرج من 30 يونيو 2013 بحزب سياسي وطني يعكس آمال الجماهير ويحدد مسار المستقبل ويرسم الحدود الفاصلة بين مبادئ وأهداف الدولة الوطنية وأراجيف وأكاذيب الجماعات المتطرفة التي حاولت اختطاف الإسلام - وهو دين الاعتدال والوسطية والسماحة - ثم حاولت اختطاف الأوطان تحت مسميات واهية وأفكار غامضة تستتر بمنطق الأممية وتسعى للقضاء على الهوية الذاتية للأمم والشعوب، وإذا كان الحزب السياسي في أبسط تعريفاته هو ذلك الذي يضم جماعة من البشر تجمعها مبادئ واحدة وأهداف مشتركة وهي تسعى للوصول إلى السلطة لأنها إذا تجردت من مفهوم السعي نحو السلطة والعمل من أجل ذلك تصبح أقرب إلى الجمعيات التعاونية أو المؤسسات الأهلية التي لا علاقة لها بالعمل الوطني العام، ولنا هنا عدة ملاحظات حول مسار العمل الحزبي العام في مصر:
أولًا: إن المواطن المصري العادي ــ أي رجل الشارع – متعلق دائمًا بمركز السلطة التنفيذية ويؤمن بها دون غيرها.. نعم هو يحترم السلطة القضائية ويسعى نحو حيازة السلطة التشريعية ولكنه يدرك أن القرار في النهاية مرتبط بالسلطة التنفيذية حتى أن رئيس الدولة هو أيضًا الرئيس المباشر للسلطة التنفيذية قبل غيرها مهما اختلفت المسميات وتعددت الألقاب، إن طغيان السلطة التنفيذية على غيرها من السلطات جذب بالضرورة الأجيال المتعاقبة إلى الاحتماء بالسلطة التنفيذية واعتبار العمل الحزبي ترفًا لا مبرر له ولا جدوى منه، لذلك عمدت الحكومات المتعاقبة إلى دمج الدور الحزبي بالموقع التنفيذي، فكان فؤاد سراج الدين باشا سكرتير عام حزب الوفد هو وزير الزراعة ثم الداخلية، وكان يوسف والي أمين عام الحزب الوطني هو أيضًا نائب رئيس الوزراء ووزير الزراعة واستصلاح الأراضي إذ لا جدوى من عمل حزبي مفرغ من سلطة تنفيذية، تلك هي مصر بشخصيتها الموروثة التي لم تتغير كثيرًا.
ثانيًا: لقد قلت مرارًا أن زملاءنا من الطلاب العرب في ستينيات القرن الماضي وأثناء دراستنا الجامعية كانوا يعيروننا قائلين: إنكم بلد لا يعرف معنى الحزب السياسي فلديكم حزبان من نوع مختلف هما حزب الأهلي وحزب الزمالك، وكانوا يتباهون أمامنا بالإحكام الشديد لحزب البعث العربي الاشتراكي على المستويين القومي والقطري ويسخرون دائمًا من الممارسات الحزبية المتواضعة لدينا والتي يحتل فيها التنظيم الواحد دور الريادة والقيادة على أنقاض حركة حزبية غائبة ودور ديمقراطي مفقود.
ثالثًا: لقد فتح التحول السياسي الذي شهدته مصر في العقد الأخير الباب من جديد أمام ممارسات حزبية تعكس روح العصر وتقاليد الديمقراطيات الحديثة، ولكن يبدو أن الأمر لا زال يحتاج إلى ما نسميه (حضانات سياسية) تسد النقص وتعالج الفراغ إلى أن يكتمل للشعب المصري إحساس عام بجدوى الحياة الحزبية وأهمية وجودها وأنها ليست ترفًا إضافيًا ولكنها ضرورة سياسية بالدرجة الأولى وأنه لا يمكن الافتئات على الحركة المطلوبة للأحزاب السياسية.
رابعًا: إنني أظن حتى الآن أن الخيار بين النظامين الرئاسي والبرلماني أو حتى الجمع بينهما لا زال يقتضي وجودًا أكبر للأحزاب السياسية ودورًا أقوى للشراكة في السياسة والحكم، وقد عايشت شخصيًا تجربة النظام البرلماني للدول الثلاث التي خدمت فيها دبلوماسيًا مصريًا وأعني بها بريطانيا والهند والنمسا حيث اقتنعت بأهمية الأخذ بقدر كبير من خصائص النظام البرلماني ودوره في الحياة السياسية والتمهيد للحريات الواسعة والتمكين للديمقراطية الحقيقية.
خامسًا: إذا كنا نتحدث عن النظام السياسي المصري باعتباره نظامًا مختلطًا يقترب من النموذج الفرنسي، إلا أننا – وقد أخذنا بنظام المجلسين في البرلمان المصري – لابد وأن نعي جيدًا أن فلسفة الاختلاط بينهما يجب أن تصب في صالح التمثيل السياسي الحقيقي والتعبير الجاد عن التيارات السياسية في الشارع المصري، ولا يجب الاستهانة بالدور المشترك لمجلسي النواب والشيوخ والتحامهما بالقرارات التنفيذية وتوجيهها لصالح المواطن العادي في النهاية، ويجب أن نتذكر أن النظام الأمريكي وهو رئاسي بامتياز قد جعل نائب رئيس الجمهورية المنتخب هو رئيس مجلس الشيوخ في الوقت ذاته، وفلسفة ذلك هي محاولة إحداث توازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية على اعتبار أن القضاء مستقل في النهاية ولا يقبل تدخلات.
هذا عرض سريع لمحنة الأحزاب السياسية في مصر وجدوى الصعود بها ورفع قدرها حتى تمارس دورًا ملموسًا على الصعيد الوطني، ولا شك أن التعددية الحزبية تؤدي إلى توزيع الأدوار وإحداث حراك حيوي على المسرح السياسي وهو أمر تستحقه مصر خصوصًا في ظل التطورات الإيجابية على الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية التي شهدتها في السنوات الأخيرة.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 1 سبتمبر 2020.