خمسون عامًا مضت منذ أن رحل جمال عبد الناصر عن عالمنا، تغيرت الدنيا وتبدلت الأحوال وتراجع المشروع القومي وتحرك المشروع الديني وأصبحنا أمام عالم مختلف وكوكب جديد، وما أكثر ما كتب عن عبد الناصر فهو زعيم ملأ الدنيا وشغل الناس، فأنصفه البعض وتحامل عليه البعض الآخر! ولم ينل الرجل ما يستحقه من تحليل موضوعي يقوم على قراءة محايدة تتسم بالإنصاف الحقيقي ولا تعتمد على الاجحاف الظالم، وفي رأيي أن عبد الناصر سوف يظل كتابًا مفتوحًا أمام الأجيال القادمة خصوصًا وأن أولئك الذين لم يعاصروه ولم يعيشوا سنوات حكمه يبدو لهم تاريخه بعيدًا وشاحبًا، ولقد أفزعني أحد الشباب عندما سألني ذات يوم من الذي جاء قبل الآخر عبد الناصر أم السادات؟ وأدركت أن رؤيته لتلك الحقبة مثلما هو الأمر لدينا بالنسبة لعصر محمد علي، فالذين قرأوا أو سمعوا ليسوا كمن عاشوا وشاهدوا، ولعلي أطرح الآن بعض الملاحظات:
أولًا: إن عبد الناصر كان على قمة السلطة ما يقل عن ثمانية عشر عامًا كما أن خلافه مع الرئيس الأول محمد نجيب قد استغرق العامين الأولين من سنوات ثورة يوليو ولذلك فإن فترة حكم عبد الناصر هي صدى لسنوات ما قبل 1952 في الثقافة والأدب والفن وربما في الهيكل الاقتصادي والتحول الاجتماعي أيضًا، ولذلك اتسمت سنوات حكمه بقدر كبير من التوازن الطبقي والإحساس بالاستقرار الشامل على كافة الأصعدة وذلك لا يقلل من عطائه داخليًا فهو الذي تحدث عن أهمية الصناعة وأعطى التصنيع أولوية بدءًا بالتصنيع الثقيل وصولًا إلى بوتاجاز وسخان وثلاجة المصانع الحربية لذلك فإن رؤية عبد الناصر اتسمت بالشمول، وأنا استطيع أن أقول أن الأطر النظرية لفكره تتسق تمامًا مع روح العصر ورؤية المستقبل ولكن المأساة الحقيقية جاءت في التطبيق بالأخطاء المعروفة والتجاوزات التي حدثت.
ثانيًا: إن البعد الثقافي لثورة يوليو مضى وكأنه يبدأ من الصفر مع أنه يعيش على أسماء موجودة بالفعل من أمثال طه حسين والعقاد والحكيم ومحفوظ وأم كلثوم وعبد الوهاب وغيرهم، لذلك كنا نتوقع أن يقوم عبد الناصر بعملية دمج كاملة لمراحل تاريخنا الثقافي بدلًا من الخصومة التي اعتمدتها ثورته في مواجهة مقتنيات العصر الملكي وآلياته، كما أن محاولات التغيير والتشويه والعبث بالتاريخ تحسب كلها على ثورة يوليو التي غيرت أسماء الشوارع ورفعت بعض التماثيل من الميادين وصورت للأجيال الجديدة أن مصر ولدت ليلة 23 يوليو 1952 وفي ظني أن مصر لم تكن بحاجة إلى كل ذلك، فالتواصل التاريخي والالتحام الثقافي كان يمكن أن يؤثر إيجابيًا على الشخصية المصرية ونظامها التعليمي وواقعها الثقافي ولكن هكذا شاء الثوار وكان لهم ما أرادوا خصوصًا وأنني أظن أن لكل عصر إيجابياته وحسناته مثلما له سلبياته وسقطاته، لذلك فإن حكم أسرة محمد علي بما له وما عليه كان قاطرة تطور على الأرض المصرية برغم اختفاء الإرادة الحرة للشعب الذي عاصر تلك الحقبة التي امتدت لقرن ونصف قرن من الزمان.
ثالثًا: إن انحياز عبد الناصر الفطري للفقراء وإيمانه الشديد بقضية العدالة الاجتماعية كانت هي السبب في رسوخ اسمه لدى وجدان الجماهير المصرية التي ترفع صورته في كل مناسبة تأكيدًا لأهمية العدالة الاجتماعية لدى الشعب المصري الذي يثور من أجلها ويسعى لتحقيقها، ولنا في أحداث 25 يناير 2011 برهان ساطع على أهمية قضية العدالة الاجتماعية عندما رفعت الجماهير صور عبد الناصر ورددت عيش .. حرية .. عدالة إجتماعية، ولازلت أقف كثيرًا أمام شهادة القطب الإخواني الراحل د. محمد فريد عبد الخالق الذي قال على قناة الجزيرة إنه يترحم على عبد الناصر الذي فعل الكثير لبلاده، وكان نظيف اليد شريف السلوك، وعندما استفزه مذيع الحلقة قائلًا: كيف تمتدح من سجنك؟ رد ذلك الرجل في نزاهة: هذه شهادة لله والتاريخ، وأود أن يتذكر الجميع أن جنازة عبد الناصر كانت ولا تزال مشهدًا مروعًا في تاريخ الحزن المصري وربما العربي أيضًا، ولازلت أتذكر أصوات الرصاص الذي كان يجلجل في سماء بيروت يومها تعبيرًا عن حزن اللبنانيين بكل طوائفهم.
رابعًا: إن قضية الديمقراطية في العصر الناصري يجري استخدامها كاتهام دائم لتعزيز مفهوم ديكتاتورية الحكم والتفرد بالسلطة، وأنا أقول هنا بشجاعة ووضوح.. نعم .. نعم عصر عبد الناصر افتقد المؤسسات الديمقراطية والمشاركة السياسية ولكن شعبية الزعيم وكاريزما عبد الناصر كانت بمثابة استفتاء يومي على حب الناس له وتعلقهم بقيادته، يبدو هذا الحديث فجًا ولكن يجب تقييم كل شئ منسوبًا لعصره وأوانه، فلكل طقس سياسي مناخ معين ولا يمكن الحكم على ما مضى منذ أكثر من نصف قرن بذات معايير اليوم وتقيمه برؤية العصر الذي نعيش فيه لا العصر الذي تواجد به ذلك النظام وسطعت شموسه، فالموضوعية تقتضي أن نعرف جيدًا الظروف التي أحاطت بالماضي والتحديات التي واجهته والبيئة السياسية التي واكبت سنواته.
خامسًا: إنني أظن أن الرجل لو عاش سنوات أخرى تضاف إلى عمره القصير لأجرى تغييرات جذرية في فكره وقام بمراجعة واعية لرؤيته، ويكفي أن نقرأ محاضر جلسات اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي في الشهور الأولى أعقاب النكسة في صيف وخريف 1967، فلقد كان الرجل عظيمًا في ممارسته للنقد الذاتي، وقال في حق سنوات حكمه ما لا يستطيعه سواه، كما كان أمينًا مع الحقيقة صادقًا مع الواقع معترفًا بالأخطاء محددًا رؤية شاملة للمستقبل.
لقد مضى عبد الناصر إلى رحاب ربه، ولكن أفكاره ومواقفه باقية كما أن أخطاءه وإخفاقاته معروفة ولكنه يبقى في التاريخ المصري الحديث أسطورة العدالة الاجتماعية، وبطل الحلم القومي، وزعيم الجماهير المقهورة.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 22 سبتمبر 2020.