الروائيون أنواع، منهم من يهتم بالرواية التاريخية مثل جمال الغيطانى الذى شدته الحقبة الفرعونية والفترة المملوكية، وآخر مثل يوسف القعيد الذى اهتم بالاشتباك بين الماضى والحاضر وعبر عن الواقع فى أمانة وسلاسة، بينما وقف العملاق نجيب محفوظ على أطلال الحارة المصرية يعيش فيها ويكتب عنها ويستقى منها خواطره وأفكاره، بل إن استغراقه فى المحلية هو الذى وصل به إلى عرش العالمية، وها نحن نكتب اليوم عن روائى فريد كتب عن قاع المجتمع وعبر عن معاناة الناس والصدام الدائم بين الخير والشر، فكان قريبًا من الطبقات الفقيرة والفئات المهمشة التى عاش بينها واحتك بها، خصوصًا فى محافظتى كفرالشيخ والبحيرة حتى جاءت روايته المحورية (وكالة عطية) التى تدور أحداثها حول مدينة دمنهور ذات التاريخ الطويل والشخصية المتميزة، فكان خيرى شلبى بحق هو الانعكاس الصادق للحياة اليومية للمصريين، بل إننى أتذكر أنه كتب بعض رواياته فى مسكن وسط المقابر فى القاهرة القديمة، لذلك جاءت مشاعره صادقة وأحاسيسه مرهفة وأفكاره جديدة، ولقد أدهشنى ذات يوم، منذ عشرين عامًا، وكانت معرفتنا لاتزال سطحية، بن كتب عنى (بورتريه) فى عدة صفحات بمجلة الإذاعة والتليفزيون تحت عنوان (المفهرس) فإذا به يلتقط سمات شخصيتى كما لا يعرفها أحد غيرى، ويطرق بالقلم على جوانب من حياتى لا يدركها الكثيرون فقد اكتشف أننى نمكى، منظم، أحب النظرة الشاملة ولا أتوه فى التفاصيل، ولقد حصلت على نسخة أخرى من عدد هذه المجلة بإهداء من الأستاذ خالد حنفى، رئيس تحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون، وقد ضمنتها كتاب حياتى تحت عنوان (الرواية) الذى سوف يصدر خلال أسابيع قليلة، ولقد كان الجلوس إلى خيرى شلبى (شيخ الحكائين) متعة تمتزج فيها الثقافة بالتسلية والفكاهة مع ضحكته المميزة وشعره المنكوش وعباراته الرصينة وكلماته القوية، خصوصًا أنه كان صاحب مزاج يستطيع أن يهيئ نفسه للكتابة فى توهج وانطلاق فى إطار طقوس لا يعرفها سواه، ولقد جمعتنى به بعد ذلك لقاءات متعددة مع حفنة من الأصدقاء فى صالون الراحلة السيدة شمس الإتربى، حيث كان هو نجم الجلسات ومحور الحديث، وقد كان يتكلم مع كل منا كما لو كان صديقه الأوحد ورفيق مشواره فى الحياة، وعندما ذهبت إلى الحلقة الأسبوعية من برنامج «يحدث فى مصر» الذى يحاورنى فيه الإعلامى اللامع شريف عامر، وجدت أن يومها هو ذكرى رحيل ذلك الأديب المصرى الصميم الذى لا تقل أهميته فى نظرى كثيرًا عن روائى نوبل نجيب محفوظ، بل هو فى ظنى ينتمى إلى مدرسة تقترب من مدرسة محفوظ ولا تبعد عنها كثيرًا، ولقد أسعدنى أن حفيد خيرى شلبى (محمد السنهورى) يعمل فى محطة MBC وهو يحدثنى أحيانًا فى لقاءاتنا الأسبوعية عن جده وحياته ومصادر إلهامه وتنوع خبراته، وأنا أظن أن خيرى شلبى لم ينل فى حياته ما يستحقه من تكريم لأنه لم تكن له (شلة) وليس حوله (حرافيش)، فضلًا عن عزلته شبه الدائمة وابتعاده عن الأضواء وبساطة حياته مع تواضع غريزى يرتبط بأبناء الطبقات الأكثر عددًا والأقل ثروة، لذلك كان رحيله مفاجأة شخصية لى، إذ كنت أحسب أن العمر سوف يمتد به أكثر، ولكن لكل أجل كتاب، كما أن الحياة الصعبة والمعاناة المستمرة تقصف الأعمار وتسحب البشر إلى القبور قبل الأوان، وأنا أطالب كبار الناشرين أن يجمعوا أعماله الكاملة، وأدعو الصديقة العزيزة الوزيرة المتميزة دكتورة إيناس عبدالدايم أن تجعل اسمه عنوانًا على دورة أحد المهرجانات الفنية حتى تحيى ذكرى أديب عاش ومات وكأنه عابر سبيل على ضفاف النيل.
رحم الله خيرى شلبى فى ذكراه روائيًا عظيمًا ومعبرًا صادقًا عن الشعب الذى خرج من صفوفه والفئات التى عاش معها وكتب عنها ورحل وسط زحامها، وسوف تبقى ذكراه رمزًا للأدب المصرى وتعبيرًا عن حياتنا منذ النصف الثانى من القرن العشرين حتى رحيله منذ سنوات، لقد كان خبيرًا بسلوك البشر، ضليعًا فى سبر أغوار الشخصية المصرية، ولذلك سوف يبقى ملتحمًا بها معبرًا عنها صادقًا معها.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2043442