يشتهر الشعب المصري بانتقاده الدائم لحكامه والتنكيت عليهم والسخرية منهم في معظم عصور تاريخه، إنه الشعب الذي استنجد بشيخ الأزهر منذ أكثر من ثلاثة قرون قائلًا (يا خراشي) وهو اسم شيخ الأزهر حينذاك يستعديه على السلطة الظالمة في وقتها، وهو الشعب الذي قال لجابي الضرائب (يا برديسي ماذا تأخذ من تفليسي؟) وهو الذي قال (الله حي سعد جاي) مبشرًا بعودة زعيم ثورة 1919 من منفاه، ولقد بقيت مساحة كبيرة من الثقة المفقودة بين الحاكم والشعب، وقد حاولت بعض النظم السياسية المصرية تجسير الفجوة ولكنها لم تنجح تمامًا، فلقد حاول ذلك عبد الناصر فقبله الناس بالمهابة الشخصية مع نظافة اليد، وحاول ذلك السادات بالبساطة ونزوله إلى لغة القرية المصرية، ولكنني أظن أن الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي قد نجح في ردم الفجوة إلى حد كبير، فأصبحنا نجد المواطن المصري يتحدث عن معاناته المعيشية دون أن يسب الحاكم وكأنما يدرك أنه هو طبيبه المعالج الذي يعطيه الدواء المر لكي يتعافى في مستقبل أيامه هو وأولاده والأجيال القادمة من بعده، فأزمة الثقة بين الحكام والشعوب معروفة في معظم دول الدنيا ولكنها متجسدة في مصر منذ العصر الفرعوني الذي عرف شكاية (الفلاح الفصيح)، وفي ظني أن إجراءات بناء الثقة بين المواطن والدولة في مصر قد اعتمدت في السنوات الأخيرة على الركائز التالية:
أولًا: ضرورة المصارحة الكاملة من الحاكم المصري لشعبه والتوقف عن الممارسات (الديماجوجية) الباحثة عن الشعبية الرخيصة والعاجلة وضرورة مشاركة المواطن المصري في فهم الأسباب التي تؤدي إلى القرارات المصيرية خصوصًا تلك المتعلقة بقوت يومه ومستوى معيشته فضلًا عن إحساسه بصدق الحاكم ووضوح قراراته وشفافية إجراءاته.
ثانيًا: إن الحكومة الفاسدة لا يرضى بها الشعب المصري ولو قبلها إلى حين فهو يرى أن الحرب على الفساد هي اختيار حتمي لكل حاكم صالح خصوصًا وأن المحسوبية والرشوة والمحاباة والكيل بمكيالين وازدواج المعايير في تطبيق القانون كانت كلها أمراض عرفها المصريون عبر تاريخهم الطويل ولم يعودوا قادرين على استمرارها، لذلك فإن تنقية المجتمع من أدران تلك الأمراض هي مسألة وجوبية يسعد بها المصري ويتطلع إلى جديتها بحيث لا تكون أمرًا انتقائيًا يخضع لاختيار أصحاب القرار خصوصًا في المحليات التي كانت دائما مستودع الفساد الإداري والمالي والتي تعشعش فيها العناكب التي تسعى لتضليل المواطن وتنمو فيها الحيتان التي تلتهم ثروته الصغيرة بل وقوت يومه أيضًا.
ثالثًا: سوف تظل قضية العدالة الاجتماعية هي المعيار الأول للثقة بين الحاكم والمحكومين، فالتفاوت الطبقي الفاضح والضغط على الطبقة الأكثر عددًا والأشد فقرًا هي عملية قاتلة تضرب الثقة المتبادلة في مقتل وتطيح بالسلام الاجتماعي والإحساس بالأمان الدافئ في ظل الحاكم النظيف، لذلك فإن المصريين إذا نسوا كل ما لعبد الناصر وما عليه إلا أنهم يتعلقون بالبعد الاجتماعي لنظامه وانحيازه للفقراء وإيمانه العميق بقضية العدالة الاجتماعية.
رابعًا: إن وضوح خارطة المستقبل يعطي المواطن المصري إحساسًا بالأمان لأنه يدرك في هذه الحالة أن المعاناة ضرورية ومؤقتة وإلا ما هو تفسير قبول المصريين من الرئيس السيسي ما لم يقبلوه من سابقيه؟! فالشعب مع قائده إذا تأكد من الفهم الصحيح للأمور وإدراك الأبعاد الحقيقية للتطورات الجارية حوله والأوضاع الراهنة المحيطة به.
خامسًا: إن مفهوم القدوة مفهوم متجذر في حياة المصريين، فالحاكم نظيف اليد شريف الكلمة الذي لا يتربح من صلاحياته ولا يراوغ في مسئولياته ويبدو أمام جماهيره نموذجًا نظيفًا هو بالضرورة الأقدر على ترميم الفجوة والإطاحة بأزمة الثقة التي تؤرق الجميع وتنذر بأخطر العواقب، والمصري يؤمن بأن فاقد الشئ لا يعطيه، وقد عرف عبر تاريخه الطويل قادة شرفاء وحكامًا فاسدين ولكنه لم يفقد أبدًا القدرة على التمييز بينهما والتفرقة بين من يعبر عنه وبين من يستخدمه سلمًا للوصول إلى المواقع العليا للسلطة، ولقد رأيت في الفترة الأخيرة كثيرين يشتكون من المبالغ المطلوبة لتوفيق أوضاعهم في المسكن أو الأرض المملوكة بعد أن جرت في العقود الأخيرة جرائم مدمرة لتحويل الرقعة الزراعية إلى كتل أسمنتية على حساب مستقبل الغذاء الذي كان من نتائجه تحول مصر إلى دولة مستوردة لمعظم استهلاكها، ولكنني لاحظت أيضًا وبصدق أن من يحتجون على تلك القرارات الجديدة يؤمنون في أعماقهم أنها إجراءات ضرورية لإصلاح الفساد وإعادة خريطة الحياة المصرية الى وضعها الطبيعي في الريف والحضر على السواء.
إن الثقة المفقودة بين الحاكم وشعبه لا ينبغي أن تستمر لأنها تمثل المعوق الأساس لحركة المجتمع إلى الأمام وهي تعويق مباشر لخطط التنمية وبرامج الإصلاح، لذلك فإن هذا الأمر يحتاج إلى عناية كبيرة واهتمام شديد لأنها قضية مفتاحية يتوقف عليها استجابة المواطن لتعليمات الدولة وتوافقه مع إجراءاتها حتى يكون هناك تناغم حقيقي بين ما نريده وبين ما يمكن تحقيقه، ومصر دولة عريقة وإدارة قديمة لذلك فإن دولاب الحياة يحتاج إلى تضافر كل الأطراف والشراكة الكاملة في صنع المستقبل، إن مصر تمر حاليًا بمرحلة شديدة الصعوبة بالغة الحساسية تبنى نفسها في كل اتجاه وتعتمد برنامجًا قويا للإصلاح الاقتصادي وتحارب الإرهاب الذي يستهدفها فضلًا عن الحصار الإعلامي الذي يطوقها، وتقوم الدولة المصرية في ذات الوقت بتشييد البنية الأساسية وفقًا لأنجح النظم وأحدث التقنيات لذلك آن الأوان لكي يتفاعل المواطن مع الدولة وتنتهي إلى الأبد الحساسيات المؤرقة من العلاقة القلقة بينهما والتي ورثناها من عصور الظلم والظلام، وقد حان الوقت الذي نتطلع فيه إلى أضواء الفجر القادم ونأمل ألا يكون بعيدًا.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 29 سبتمبر 2020.