تتجدد في مثل هذه الأيام من كل عام روح أكتوبر التي تمثل ظاهرة فريدة في تاريخ الشعب المصري عندما انتظمت صفوفه وراء قيادته في معركتي العبور والتحرير وتحقق بهما نصر لم يكن متوقعًا بعد أن رددت أدوات الإعلام الغربي أن العرب لن تقوم لهم قائمة قبل خمسين عامًا على الأقل، وأن حرب (الأيام الستة) قد مزقت أوصال الجيوش العربية ولم يعد منتظرًا لها أن تتحرك من جديد، خصوصًا وأن الحديث كان مستمرًا عن أكبر مانع مائي في التاريخ بالإضافة إلى أكبر ساتر ترابي عرفته الحروب، ولكن الذي لم يعرفه أولئك الخبراء العسكريون الأجانب هو أن إرادة الشعوب أقوى بكثير وأن العناد الوطني عندما يسيطر على شعب يشكل مخزونًا كاسحًا من التصميم على تحقيق الهدف وبلوغ الغاية، والذين عاصروا حرب أكتوبر يدركون جيدًا أن المعدن الحقيقي للجيش المصري كان واضحًا بحيث تمكنت طلائع قواته من عبور قناة السويس في شهر رمضان وحققت إنجازًا هائلًا بكل المقاييس العسكرية فضلًا عن شيوع إحساس عميق بأن كرامة الشعوب لا تضيع وأن الأمل في النصر لا يموت أبدًا، ولقد كان الحديث عن السلام قبل حرب أكتوبر حديثًا منقوصًا لأن مرارة الهزيمة كانت تحول دون ذلك فلقد كانت الندية مفقودة بين المنتصر والمهزوم، أما بعد حرب أكتوبر فقد ارتفعت الرؤوس وتمكنا - عربًا ومصريين - من دخول الحرب الظافرة لأول مرة في تاريخ المواجهات العسكرية العربية الإسرائيلية، والغريب أن الشعب العربي أفرز أفضل ما لديه وظهر معدنه الأصيل في تضامن شامل فتغير وجه الاقتصاد العالمي بعد الحظر الشامل على النفط وما أدى إليه ذلك من قفزات كبيرة في الأسعار وإحساس شديد لدى الدول الغربية بأن العرب الذين كانوا يعرفونهم ليسوا هم أولئك الذين يشهدون انتصارهم ويدهشون لصلابة موقفهم، ويكفي أن نتذكر أنه رغم ظروف الحرب في ذلك الوقت واختفاء بعض السلع إلا أن الشارع المصري لم يشهد اختناقًا على الإطلاق في السلع التموينية فضلًا عن اختفاء الجرائم الجنائية تقريبًا طوال فترة الحرب وذلك يؤكد أن معادن الشعوب العريقة تظهر في اللحظات الفاصلة، وعندما ظهرت أزمة الطاقة في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية قال الداهية هنري كيسنجر قولته الشهيرة: Food for Crude أي النفط مقابل الغذاء، ويهمنا أن نسجل الآن الملاحظات التالية:
أولًا: إن الأفراد ذاهبون ولكن الشعوب باقية، إن الهزيمة مؤقتة ولكن النصر مؤكد، ولن ينسى المصريون لقائد عسكري جسور هو الفريق محمد فوزي الذي جمع شتات الجيش المصري بعد الهزيمة مباشرة واستطاع بقيادة الأسد الجريح جمال عبد الناصر أن يوحد الصفوف وأن يجمع الكلمة حتى بدأ الجيش المصري تدريبات هائلة على كل المستويات.
ثانيًا: لقد تأكد الجميع أن هزيمة عام 1967 كانت هزيمة سياسية ولم تكن عسكرية لأن الجيش المصري لم يشتبك في قتال حقيقي بل جرى الزج به في معركة مكشوفة دون استعدادات حقيقية لحرب دبرت لها إسرائيل واختارت لها التوقيت الذي رأته، ولابد أن نعترف هنا أن السنوات الثلاث الفاصلة بين الهزيمة ورحيل عبد الناصر هي سجل مشرف لذلك الزعيم الراحل الذي مضى على وفاته نصف قرن كامل ولا تزال الجماهير العربية ترفع صورته وتردد اسمه لأنه خرج من صفوفها معبرًا عنها ملتزمًا بالولاء لها، ولا يحسب على عبد الناصر في تلك الفترة إلا ما يطلق عليه مذبحة القضاء ولكن يحسب له في ذات الوقت عملية النقد الذاتي التي سجلها ذلك القائد على نفسه في اجتماعات اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي في خريف عام 1967، ولا شك أن النقد الذاتي عندما يأتي من قائد تعرضت قواته لهزيمة سياسية هو نوع من السمو على الجراح واعتراف ضمني بالحقائق كما ينبغي أن تكون.
ثالثًا: إن كل محاولات التسوية السابقة على حرب عام 1973 قد باءت بالفشل لأن الضمير العربي كان مجروحًا ينزف أسفًا وألمًا ويشعر بالهوان ولولا نصر أكتوبر 73 ما تمكن العرب من الجلوس على مائدة التفاوض مع الطرف الآخر، لذلك فإن حرب عام 1973 هي التي فتحت بحق الباب أمام مفاوضات السلام باعتباره اختيارًا وحيدًا لحل الصراع العربي الإسرائيلي.
رابعًا: لم يكن التضامن العربي في تاريخه كله بذات القوة التي كان عليها أثناء حرب أكتوبر وبعدها مباشرة، فقد اختلطت الدماء العربية على ضفتي القناة وشارك المقاتلون من كل قطر عربي لإزالة غشاوة الهزيمة وفتح باب النصر، ويكفي أن نتذكر أن الجيش المصري حارب في (رأس العش) بعد أسبوعين من الهزيمة ودخل معارك (شدوان) وإغراق المدمرة (إيلات) بعد فترة وجيزة من حرب الأيام الست، فالبسالة الكامنة هي جزء من الكيان المصري بل والكيان العربي كله.
سوف تظل روح أكتوبر تمثل رصيدًا ضخمًا في تاريخنا القومي وستظل حافزًا على طريق الأمل في مستقبل أفضل للدول العربية كلها وهي تلتقي على رؤية واحدة نحو مستقبل واعد لشعوبها التي عانت كثيرًا وحان الوقت لكي تستكمل البناء وفقًا لروح العصر وتطوراته الجديدة وأحداثه الضخمة لأن الدنيا قد تغيرت والعالم تحول في النصف قرن الأخير على نحو لم نشهد له مثيلًا من قبل.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 6 أكتوبر 2020.