ورد في الأثر مقولة خالدة تلخص فلسفة الحياة والعلاقة بين الدارين دار الفناء ودار البقاء، ونصها (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا)، فهذه الحكمة الرفيعة تحدد درجة التوازن بين شواغل الحياة واستحقاقات الموت، أقول ذلك وأنا أدرك أن الأديان الإبراهيمية الثلاث حرصت على التوازن بين الاستمتاع بالحياة وبين التهيؤ للموت لذلك فإن انصراف البعض إلى الانقطاع الكامل عن متع الدنيا من أجل تكريس كل الوقت للعبادة هو أمر لا يتسق مع تعاليم السماء، كما أن الانغماس في لهو الدنيا والانصراف عن مقتضيات الآخرة هو أيضًا عبث لا تدعو إليه رسالات السماء، أقول ذلك بمناسبة الإسراف أحيانًا في بناء المساجد والكنائس وهي من شئون الآخرة على حساب بناء المدارس والمستشفيات وهي من احتياجات الحياة الدنيا لذلك اقترحت منذ عدة سنوات على كل فرد أو جماعة تسعى لبناء مسجد أن تقيم معه وبنفس المستوى من التشييد والإعمار مدرسة أو مستشفى، وكل من يريد بناء كنيسة أن يلحق بها مباشرة مستشفى أو مدرسة أيضًا حتى يكون التوازن مستقرًا بين الحياتين الأولى والثانية، وقد كنت أدهش أثناء جولاتي الانتخابية منذ عقدين من الزمان وأنا أرى تكالب الناخبين على مطلب واحد وهو بناء دور العبادة وإعمار المساجد والكنائس ولا نكاد نسمع كثيرًا عمن ينادي ببناء مدرسة أو إقامة مستشفى، وكأنما الناخبون هم مندوبوا السماء على الأرض بينما المدارس والمستشفيات شأن رسمي للدولة لا يقع بين واجباتهم ولا يستحوذ على اهتماماتهم، بل لقد لاحظت أن هناك من يقتطعون أرضًا زراعية خلقها الله لإطعام البشر وذلك ليبنوا عليها مساجد إضافية تقربًا إلى الله ونفاقًا دينيًا لا مبرر له، بل رأيت أيضًا من يقتطع جراجات العمائر ويحيلها إلى زوايا للصلاة دون حاجة إليها وهي بالمناسبة معامل لتفريخ التطرف وأنصاف العارفين بالله، كما شهدت في تلك الفترة معاناة المسيحيين المصريين في بناء الكنائس وتشدد الدولة حينذاك في الأمر بدعوى المواءمة مع التيار الإسلامي المتطرف، وكنت أقول لنفسي لو أن كل مجموعة إسلامية ومسيحية التقت في جمعية واحدة لبناء مسجد وكنيسة ومدرسة ومستشفى في مجمع واحد لكنا قد أرضينا الدنيا والآخرة وخدمنا الوحدة الوطنية وأرسينا قواعد ثابتة في عبادة الله الواحد الأحد الذي نعبده جميعًا، وها أنا ذا أكرر النداء لإحداث توازن عادل بين المساجد والمدارس وبين الكنائس والمستشفيات، ولقد أسعدتني أحيانًا ظاهرة تستحق الإشادة وهي وجود مستوصفات ملحقة بالمساجد والكنائس وفيها أطباء وممرضون من ذوي الخبرة من أتباع الدينين الإسلامي والمسيحي دون تفرقة، كما سمعت عن فصول تقوية دراسية لطلاب المدارس تحت إشراف المساجد والكنائس أيضًا، ولكم تمنيت لو كان هناك اندماج بينها بحيث نتمكن من توليد جيل جديد يؤمن بالله والوطن قبل كل اعتبار، وفي السنوات الأخيرة انفرجت بحمد الله أزمة بناء الكنائس وجاء للبلاد حاكم يرعى الله ويؤمن بأن الدين للديان وأن للبشر الأوطان، دعني أطرح الملاحظات الآتية في هذا السياق:
أولًا: إن دعوات السماء واحدة كلها تحث على الفضيلة وتنفر من الرذيلة وتدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم نرى دينًا سماويًا ولا حتى أرضيًا يتحمس للرذائل ولا يحض على الفضائل لذلك فالغايات واحدة ولا دنيا لمن لم يحيي دينًا كما قال أمير الشعراء العبقري أحمد شوقي، وأنا أدعو الآن للتوازن الكامل بين الدارين كما دعتنا إلى ذلك الحكمة التي بدأنا بها هذه السطور.
ثانيًا: إن التوازن بين المساجد والكنائس في جانب والمدارس والمستشفيات في جانب آخر هي رسالة إنسانية ممتدة يجب أن نحرص على استمرارها والتوازن في إعمارها، وما أكثر من رأيت ممن يجمعون التبرعات لبناء المساجد وربما للكنائس أيضًا على نطاق مختلف بينما لم أشهد من يجمعون التبرعات لبناء المدارس إلا قليلًا أو المستشفيات إلا نادرًا، وهكذا أصبحنا أسرى للتدين الزائد على حساب الإيمان الحقيقي ولم ندرك دلالات التوازن التي تقول (ولا تنسى نصيبك من الدنيا).
ثالثًا: إن بناء المساجد هو عصب التعليم كما أن بناء المستشفيات هو عصب الصحة، والصحة والتعليم هما ركيزتان للمجتمع السوي المعافى، بل إنني أظن أن بناء المستشفيات والمدارس هو تقرب إلى الله لا يقل أهمية ومكانة عن بناء المساجد والكنائس.
هذه صيحة أرددها مع الكثيرين الذين يدركون أن الوجود دين ودنيا وأن فلسفة الخلق تقوم على التوازن بين كافة الاعتبارات، فلترتفع المآذن ولتدق أجراس الكنائس وهي تحتوي على مقربة منها المدارس العصرية والمراكز الطبية في سيمفونية واحدة تؤمن بالله وتقدس الوطن.. إن دعوتنا لا تنال من التدين بأي دين ولكنها دعم له، وهي ليست رفضًا لتعاليم السماء ولكنها تضع إلى جانبها الأعمال الصالحة في الأرض، ويوم يزدهر التعليم وتستقر الصحة العامة فإننا نكون قد كسبنا الأولى والآخرة وانصعنا لتعاليم السماء وصنعنا السلام الحقيقي.. (طوبى لصانعي السلام فإنهم أبناء الله يدعون) وذلك هو الطريق المعبد نحو الاندماج الاجتماعي والتبشير بالقيم الجديدة التي نسعى لتحقيقها وإرساء دعائمها في وطن يسعد فيه الجميع بغير استثناء.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 13 أكتوبر 2020.