إن نظرة على لقاءات القمة العربية ومؤتمراتها المتعاقبة توضح بجلاء أن معدل التغيير في العشرين عامًا الأخيرة قد تجاوز التوقعات، فكل الدول العربية تقريبًا قد تغير حكامها ورحل ملوكها ورؤساؤها بدءًا من الملك الحسن الثاني في أقصى الطرف الآخر من المغرب العربي، مرورًا بالرئيس حافظ الأسد والملك الحسين بن طلال والرئيس صدام حسين، وقيادات الخليج كلها تقريبًا فضلًا عما جرى نتيجة ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن والجزائر ثم السودان وصولًا إلى التغييرات المتلاحقة للدولة اللبنانية التي تدفع ثمنًا باهظًا للحرية المقترنة بالطائفية، وذلك يعني أن معدل التغيير في القيادات العربية يبدو أسرع مما تصورنا وذلك رغم اعترافنا بضعف الديمقراطية العربية والطبيعة الخاصة للنظم القائمة وأهمية الفرد في السلطة العربية، لذلك فإن تغيير الزعامات والقيادات يستتبعه تغيير في أسلوب الحكم ونوعية إدارة البلاد لذلك كان متوقعًا أن تحدث تغييرات كبيرة على مستوى الأقطار العربية تتناول الهياكل البنيوية لتلك النظم وتدفع بالبلاد إلى اتجاهات جديدة أكثر حداثة وتطورًا ولكن الأمر لا يبدو حتى الآن مؤكدًا لهذا التصور أو داعمًا له، فالحالة العربية تبدو على ما هي عليه منذ سنوات طوال وربما كان التغيير الوحيد هو زيادة التحديات المحيطة في الوطن العربي سواءً من إيران شرقًا أو تركيا غربًا، بالإضافة إلى الدور الإسرائيلي الذي تسلل إلى جسد الأمة العربية وأصبح مؤثرًا فاعلًا في حاضرها ومستقبلها، ويهمني في هذه السطور أن أنظر إلى النظم العربية من خلال مفهوم الحداثة وتطوير أدوات الحكم وأساليب استخدام السلطة وهي كلها قضايا عصرية تتطلع إليها كافة الشعوب ومختلف الأمم، ولعلنا نطرح هنا عدة محاور:
أولًا: إن الانتقال من عصر إلى عصر بل ومن عهد إلى عهد يحتاج إلى رؤية بعيدة وفهم شامل للعوامل المحيطة سواء أكانت أساسية أو ثانوية، فالشعوب تتطور والمجتمعات تتغير ولكن الأمر ذاته يحتاج إلى أدوات أخرى بالنسبة لنظام الحكم وسلطات الدولة، فهناك آليات لابد من اعتمادها والانطلاق بها نحو الغايات الكبرى والأهداف العظمى ويقع في مقدمتها درجة المشاركة السياسية، ومدى نضوج التجربة الديمقراطية التي تتواءم مع القيم والتقاليد والأعراف السائدة في الكيانات البشرية المختلفة، ولذلك فإن عملية النقل الصماء من تجارب الآخرين ليست بالضرورة هي الأفضل لشعوبنا حتى ولو كانت ناجحة في بلادها، فالعبرة تكون بالمواءمة بين ما نستورده من أفكار وأساليب وما لدينا من قيم عصرية وتقاليد حديثة.
ثانيًا: إن تتابع الحكام العرب – ملوكًا ورؤساء وأمراء – لا يعني بالضرورة أن تطورات إيجابية تحدث ولكنه يشير فقط إلى عامل الزمن وترتيب الأحداث وتعاقب الشخوص على قمة السلطة في الأقطار المختلفة، وذلك منهج كمي أما الاختلاف في النوعية فتلك مسألة أخرى تتوقف على نوعية التعليم في الأقطار العربية والبيئة الثقافية السائدة والنمط الاجتماعي للعلاقات المختلفة، ولا شك أن درجة نضوج الشعوب ترتبط بهذه المؤشرات التي تعكس بها معدلات التقدم السياسي والنمو الاقتصادي والتطور الاجتماعي.
ثالثًا: إن معدل دوران النخب وتداول السلطات يعكس بدرجة ما حيوية النظم وقدرتها على تحقيق الانتقال السلس للسلطة، وهو ما يعني أن قدرتنا على المضي نحو ما نسعى لتحقيقه إنما يعتمد أيضًا على التربية السياسية التي تفرز النخب والأحزاب التي تقدم الكوادر اللازمة للعمل السياسي في كل قطر عربي، ولقد لاحظنا أن الأمر يرتبط في النهاية بمستويات التعليم ونوعية المعرفة التي تتلقاها الأجيال الجديدة، ولقد لفت نظري في تقرير دولي حديث أن مستوى التعليم في الأرض الفلسطينية المحتلة يعلو على ما عداه في الأنظمة التعليمية النظيرة للدول العربية الأخرى.
رابعًا: إن الصراع التقليدي بين الدولة المدنية العصرية والدولة المتجمدة غير القادرة على إفراز عوامل التقدم وأسباب التطور إن ذلك الأمر يؤدي في النهاية إلى تحديد درجة النهوض والتمهيد للدولة التي نريدها، فالتطور سنة الحياة والتغيير فلسفة الوجود كما أن التحولات الكبيرة في حياة الشعوب تترك بصماتها على المستقبل في أحلك الظروف وأصعب الأوقات.
خامسًا: إن قراءة التاريخ تؤكد أن هناك أممًا سادت ثم بادت شأنها شأن دورة الحضارات في التاريخ البشري، لذلك فإن الحراك السياسي هو المسئول عن التحرك إلى الأمام في كافة الظروف فلم نسمع في التاريخ الإنساني كله عن دول اجتهدت ثم باءت جهودها بالفشل وانتهت بفراغ، ولازلت أظن أن شخصية الحاكم الفرد في عالمنا العربي تؤثر سلبًا أو إيجابًا في مسيرة التقدم وسباق النهضة، ولقد شهدنا نظمًا عربية تأثرت إلى حد كبير بنوعية الفرد الحاكم وقدرته على تحريك مواطنيه في الاتجاه الذي يسعى إليه، ولعل التجربة الناصرية في مصر خمسينيات وستينيات القرن الماضي خير دليل على ذلك.
يتضح من السياق الذي أوردناه أن معدل تداول السلطة ودوران النخبة في عالمنا العربي ليس بطيئًا ولكن مشكلته الحقيقية هي في التشابه بين الذاهبين والقادمين نتيجة ضعف المشاركة السياسية وغياب مظاهر التطور الحقيقي التي تدفع إلى الأمام وترفع من قدر الشعوب، وسوف تظل أمتنا في انتظار تحولات جذرية لا تتعلق بالأفراد وحدها ولكنها تعتمد على هياكل النظم وأطر الحركة السياسية بمعناها الواسع فضلًا عن الاعتماد على أساليب الحكم الرشيد الذي نشير إليه دائمًا بتعبير (الحوكمة) بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ وما تستدعيه من إجراءات.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 20 أكتوبر 2020.