حضرت ندوة أكتوبر التثقيفية منذ أيام وتحدث فيها الرئيس السيسي عن مفهوم الوعي خصوصًا وأن الشيخ خالد الجندي كان قد ألقى كلمة في البداية تحدث فيها عن أهمية الوعي، كما يبدو أن تلك كانت هي الفكرة المحورية للندوة هذا العام، وكما أكد الرئيس فإننا لا نستطيع أن نغفل أهمية الوعي في الحفاظ على بلدنا والمضي في طريقنا دون معوقات تسعى بها أطراف كثيرة إلى تجميد مصر وإيقاف حركتها وتحنيط جسدها في تابوت فرعوني يجعل أهلها ينظرون إلى الماضي ولا يشعرون بالحاضر ولا يفكرون في المستقبل، وأنا أستعير اليوم عنوان كتاب أب المسرح المصري توفيق الحكيم الذي كتبه بعد التحول الذي طرأ على تفكيره من عودة الروح إلى عودة الوعي، فقد كان في حياة عبد الناصر مواليًا وداعمًا وحتى عندما رحل الزعيم فإنه كتب نصًا يقول فيه: يداي ترتعشان ولا تقويان على الكتابة عنك أيها الزعيم، ودعا في مقاله إلى إقامة تمثال ضخم لعبد الناصر في ميدان التحرير، والمعروف أن الزعيم المصري الراحل كان معجبًا بتوفيق الحكيم ومتحمسًا لما يكتب، وعندما تزايدت حدة الهجوم على الكاتب الفيلسوف من بعض خصومه تصدت لهم الدولة وقتها إذ منح عبد الناصر توفيق الحكيم وسامًا رفيعًا اعترافًا بفضله وتقديرًا لمكانته وإيقافًا للحملة عليه، ولن استطرد في هذا الأمر فالذي يعنيني هنا هو أن ألفت النظر إلى أهمية الوعي، فالفارق بين الإنسان والكائنات الأخرى يكمن في الوعي لأن كل الكائنات الحية تعيش بروح منحها الخالق لمخلوقاته أما الوعي فهو اختصاص أصيل للإنسان الذي لا يمكنه التمييز بين الأشياء إلا بعد الوعي بها وإدراك وجودها، والوعي لا يعني درجة معينة من الثقافة ولا مستوى محددًا من التعليم ولكنه قبل ذلك كله هو حالة من الإدراك الشامل والرؤية المتكاملة لكل ما يحيط بالإنسان من رغبات وتطلعات ومحاذير فضلًا عن أنه يعكس درجة الفهم للآخر والوعي بطريقة تفكير الغير وأسلوب تعامله مع الأمور، وقد نجحت نماذج شابة كثيرة في عملية الصعود الطبقي نتيجة التعليم والخبرات التي حصلوا عليها في مسيرة حياتهم، لذلك يهمنا أن نسجل الآن الملاحظات التالية:
أولًا: لقد اختلف المثقفون حول تفسير مفهوم الوعي ولكن الأغلب الأعم منهم استقر على أنه من يتمتع بمستوى إدراك عام لما يدور حوله من ظواهر ومواقف وأفعال وأقوال، فالوعي هو الذي يفرق بين الإنسان وغيره من الكائنات لذلك فإن ارتفاع درجة الوعي يمثل تميزًا له أهميته وقيمته.
ثانيًا: إن استهداف أمة معينة أو شعب بذاته من أجل تدمير مقوماته وإجهاض إنجازاته يأتي من خلال عملية منظمة لتغييب الوعي وإحداث قطيعة بين المواطن وماضيه بل وبين حاضره ومستقبله، وهنا نكون أمام مجتمعات جرى تخديرها وإبعادها عن الحقيقة والتمويه على شئونها فتصبح وكأنها قد أصيبت بغفلة تجعل كل ما حولها ضباب لا يمكن الرؤية من خلاله ولا الفهم في وجوده.
ثالثًا: إن الوعي سلاح تحتاجه الشعوب لمواجهة الشائعات، والأكاذيب، والأراجيف، ولفك طلاسم المواقف المعقدة والمشاهد الصعبة، والمساعدة على تفكيك الأوهام والخرافات وتكوين عقلية وطنية تدرك المصالح العليا للبلاد وتمضي نحوها مهما كانت الصعاب والمتاعب، إن التجارب الناجحة للشعوب التي وقفت في صلابة تبني ذاتها وتشيد مستقبلها قد ارتبطت دائمًا بدرجة الوعي القومي والإدراك الحقيقي للمفاهيم التي يجب أن تستقر في وجدان الأمة حتى تلحق بركب التطور وتعيش حياة العصر.
رابعًا: لقد أثبتت التجارب أن هناك علاقة طردية بين ارتفاع معدلات الوعي لدى الشعوب وقدرتها على الإنجاز واقتحام المشكلات والتغلب على الأزمات لأن مساحة الرؤية واسعة ولأن القدرة على الفهم قد سمحت لتلك الشعوب - قيادات ومواطنين - أن يستشرفوا المستقبل وأن يقرؤوا الأحداث قراءة صحيحة بعيدة عن المبالغات والأوهام والخيالات الزائفة التي تصيب بعض الشعوب بحالة من الإنكار والتي لا تجعل الفرد قادرًا على فهم ما يدور حوله بل وتدفع به إلى نوع من ازدواج الشخصية الذي يجعل صورته لدى ذاته مختلفة تمامًا عن صورته لدى العالم من حوله، وهنا تكون السقطة الكبرى لشعوب لا تدرك طبيعة التحديات الحقيقية التي تواجهها ولا تتحرك في الاتجاه الصحيح عند اللزوم، والحياة في النهاية هي فكر ورؤية كما أن التقدم فرصة إذا نجحت الدولة في اقتناصها خلال التوقيت الصحيح ولذلك فإن مأساة كثير من الشعوب المعاصرة تكمن في مجمل الفرص الضائعة، بل إنني أزعم أن القضية العربية الإسلامية الأولى وهي القضية الفلسطينية قد واجهت عبر تاريخها الطويل منعطفات أثبت فيها العرب عجزهم عن اغتنام الفرص واقتناص الظروف في ظل التغيرات الدولية المختلفة حتى أفلت الزمام وتحولت القضية من التأييد السياسي إلى التعاطف الإنساني.
خامسًا: لقد قالوا قديمًا (إن الحاجة أم الاختراع)، وقال آخرون (بل إن الحرية هي أم الإبداع)، وأنا أضيف هنا أن الوعي بجوهر الأمور وفهمها فهمًا صحيحًا هو الذي يضعنا على الطريق الصحيح ويدعونا إلى اتخاذ الخطوات العاقلة الواعية الحكيمة التي تستطيع أن تقوم بعملية فرز كامل لما يجب أن تفعل وما لا يجب أن تقدم عليه، والتجارب أمامنا كثيرة والشواهد عديدة ولكن الأمر في النهاية يتوقف على ارتفاع معدلات الإدراك مع مرور الزمن وازدياد التجارب وتراكم الخبرات، ونحن العرب نبدو حاليًا أشد ما نكون حاجة إلى تعزيز الوعي القومي وتأمين عناصره في هذه الظروف الصعبة التي تجتازها البشرية في ظل الصراعات والمشكلات والأوبئة والأزمات.
هذه ملاحظات سقناها لكي نربط بين المواطن والوعي الوطني إذا جاز التعبير، أي أن يصل عقل الشعب إلى مستوى يصبح فيه ندًا أمام غيره وتعبيرًا حقيقيًا عن ظروف تحيط بنا، وعقبات تعترض طريقنا، وغايات نسعى نحوها.
نُشر المقال بجريدة الأهرام بتاريخ 27 أكتوبر 2020.