الدولة السورية تمثل قطرًا عربيًا له خصوصية، فهي منبع الحركات القومية، ومستودع العروبة تاريخيًا منذ هبط عليها الأمويون بعد الفتح الإسلامي، وظلت دائمًا درة متألقة عبر تاريخها الطويل ولكن الصراع حولها احتدم كثيرًا ولم يتوقف أبدًا لأنها قلب الشام الكبير، وقد تعرضت منطقة الشام عمومًا وسوريا خصوصًا لكثير من الأطماع الأجنبية والضغوط الخارجية وظلت قلعة عربية تواجه الاستعمار التركي ثم الوجود الفرنسي قابضة على قوميتها متمسكة بهويتها، ثم تعرضت في نهاية أربعينيات القرن الماضي لسلسلة من الانقلابات العسكرية قادها عدد من الضباط المغامرين إلى أن استقر أمرها في قبضة قائد الطيران حينذاك الفريق حافظ الأسد عام 1971 الذي حكم البلاد بقبضة قوية ثم تلاه ابنه الرئيس الحالي بشار الأسد وعندما هبت العواصف الترابية للربيع العربي استهدفت ضمن من استهدفت الدولة السورية، وظهر معظم النار من مستصغر الشرر فلقد كانت الأحداث في البداية صغيرة وقابلة للاحتواء ولكن عنف الحكومة في معالجة الأحداث أدى إلى تصعيد خطير وسريع كان من نتائجه أن تحولت سوريا إلى مصدر للقلق والاضطراب وجذبت إليها القوى الأجنبية من فرس وترك وروس وأمريكيين، وتصاعدت الأحداث بدخول موجات الإرهاب في إطار الصراعات القائمة والمواجهات المحتدمة حتى جرى تدويل الأزمة السورية في تصاعد مستمر وتطورات متلاحقة، وفشل العرب في احتواء أزمة الدولة الشقيقة أو علاجها في إطار عربي وهو ما لم ننجح في تحقيقه أبدًا لا في سوريا ولا في العراق ولا في غيرها رغم المحاولات الجادة أحيانًا من بعض الأطراف العربية، وانتدبت الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية مبعوثًا أمميًا له وزنه ومكانته هو الدبلوماسي الجزائري المخضرم الأخضر الإبراهيمي، ولكن الأطراف لم تتعاون معه ولا مع خلفائه في المنصب ولعبت التنظيمات الإرهابية دورًا كبيرًا في تأجيج الصراع والعبث بمقدرات الدولة السورية التي كانت تتمتع قبل ذلك بقدر نسبي من الاستقرار بل والرفاهية أيضًا، حيث كانت دولة بدون ديون خارجية تقريبًا ولم تتورط في عمل عسكري مباشر مع إسرائيل منذ عام 1973 رغم الاستفزازات الإسرائيلية والغارات المفاجئة أحيانًا في ظل أسباب واهية ودعاوي زائفة، ونستطيع أن نستخلص هنا عددًا من الملاحظات المتصلة بتطورات الوضع في سوريا الذي وصل إلى حالة من الجمود نتيجة تجاوز قرارات الأمم المتحدة وبسبب مؤامرات دول الجوار تركيا وإسرائيل وإيران ونجملها فيما يلي:
أولًا: إن قرار الجامعة العربية الذي أدى إلى تجميد عضوية سوريا في المنظمة العربية الأولى كان خطًأ كبيرًا لأنه قطع أواصر الحوار العربي السوري وفتح الطريق واسعًا للتدويل الكامل للقضية على نحو يسمح لأطراف خارجية بأن تدس أنفها في الشأن الداخلي للدولة السورية.
ثانيًا: كان التفاوت في مواقف الدول العربية تجاه تطورات الوضع في سوريا سببًا إضافيًا لتعطيل الوصول إلى تسوية في ظل القطيعة القائمة بين سوريا ومعظم أشقائها العرب وهو أمر ترتب عليه عزلة النظام السوري وتوقف الحوار على المستوى القومي للأطراف العربية، وكان التدخل الروسي إنقاذًا لنظام الحكم السوري بمثابة بداية مرحلة مختلفة من الصراع الذي كان من نتائجه مزيد من التعقيد مع استدعاء واضح لتدخل أمريكي على الطرف الآخر في وقت تطلع فيه الطامعون إلى مسار القضية وتطوراتها الجديدة.
ثالثًا: استثمر أردوغان في أطماعه الجغرافية وأحلامه التاريخية فرصة هشاشة الوضع في سوريا ليعبث بحدودها ويدفع بجماعات إرهابية إلى داخلها، فأصبحت المواجهة تدعو إلى اختلاط الأمر بحيث لا نعرف من يصارع من وتكاثرت التنظيمات الإرهابية على الساحة السورية وازدادت المشكلة تعقيدًا في وقت خرج فيه عشرات الألوف من السوريين إلى الخارج فرارًا من نيران الحرب وأهوالها وأصبحت سوريا التي كانت تأوي اللاجئين هي التي تصدر أبناءها لاجئين في مشهد حزين لشعب عربي أبي يذكر له التاريخ القومي وقفات شامخة عبر القرون.
رابعًا: تزايدت حدة التدخلات الخارجية في سوريا ولم يستمع الكثيرون إلى صوت العقل الذي يقول إنه لابد من احترام الشرعية الدولية والامتناع عن تقسيم الكيان السوري المستقل واستغلال ظروف ما جرى لتمزيق وحدة ذلك البلد الذي كنا ننظر إليه جميعًا بإكبار وتقدير.
خامسًا: إن الانكفاء القطري الذي تعاني منه الدول العربية في مجموعها نتيجة الأوضاع التي جدت قبل الربيع العربي وبعده قد أدت إلى انصراف الجميع إلى الشأن الداخلي المضطرب لديها وبقيت القضية السورية أمرًا تعودوا عليه وكأنه شأن لا يعنيهم، وقد عبث الأتراك بالأراضي السورية في مراحل الصراع المختلفة كما أطلت المشكلة الكردية بظلالها على الشمال الشرقي لدولة سوريا بؤرة الشام الكبير ومركز التاريخ العربي الطويل.
إننا نلاحظ مما أوردناه أن سيناريوهات المستقبل أمام سوريا تحتاج إلى معالجة موضوعية وعادلة ومواجهة أمينة وصادقة للبنود التي أوردناها بحيث يمكن الوصول إلى تسوية تجعل من النظام السوري القائم جزءًا من الحل بدلًا من أن يكون جزءًا من المشكلة، كما أن دولًا قد اتخذت مواقف عادلة من القضية ومنها مصر على سبيل المثال ينبغي أن تتمسك بموقفها المعلن ودورها الواضح في إيقاف التدخل في الشأن الداخلي لسوريا والسعي الحثيث لإيقاف معاناة السوريين داخل بلادهم وخارجها، إن سيناريوهات المستقبل تتوقف بالدرجة الأولى على صدق النوايا وإخلاص الجهود واعتبار ما جرى ويجري في سوريا قضية عربية قبل فوات الأوان.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 3 نوفمبر 2020.