لم يخل عهد فاروق من مظاهر الاستقطاب السياسى حول العرش، فكانت هناك مجموعة تدين بالولاء شبه المطلق لبريطانيا العظمى، ومجموعة أخرى لا ترى أن فى ذلك صوابًا لمصر أو المصريين، لذلك اتخذوا مسارًا آخر يقوم على ضرورة إقامة علاقات طيبة مع دول المحور دون الاكتفاء بتلك العلاقات مع الحلفاء وحدهم، بينما كان هناك من ينادى بالزواج الكاثوليكى مع مصر وبريطانيا، مثل نموذج أمين باشا عثمان والمتشيعين لرؤيته، كما كانت هناك مجموعة أخرى ترى عكس ذلك وتميل إلى الألمان، ورمز هذه المجموعة كان عزيز باشا المصرى، مفتش عام الجيش، وصاحب التاريخ العريض فى مقاومة الوجود الأجنبى فى مصر ودول الجوار والمنطقة العربية كلها، وكان يشايعه صامتًا على ماهر باشا، الذى كان رئيسًا للديوان الملكى عند تولى فاروق العرش، ومن العجيب أنه كان أيضًا هو ذلك الذى أتم إجراءات تنازل ذلك الملك عن عرش أجداده لولى عهده الطفل عندما جرى تكليف على ماهر باشا- الذى اختاره ثوار يوليو- لتشكيل الحكومة، فعهد من جانبه بتلك المهمة إلى المستشار سليمان حافظ، وكيل مجلس الدولة، ونائب السنهورى باشا، والذى أتمها بنجاح، وكوفئ عليها حافظ بتوليته وزارة الداخلية بعد ذلك لفترة قصيرة، ولم يكن على ماهر باشا وحده هو الذى لا يستريح إلى الإنجليز ويميل إلى الألمان- لا حبًا فيهم ولكن كراهية فى المحتل الأجنبى- وفقًا لمنطق أن عدو عدوى هو صديقى، وقد كان هناك من يرون مثلما يرى ويشعرون بأن الانحياز الكامل لسلطة الاحتلال هو أمر بعيد عن الوطنية الحقيقية، وكان من رموز ذلك التيار عبدالوهاب باشا طلعت، الذى أصبح رئيسًا للديوان الملكى، وبالمناسبة كان ابنه سميح طلعت وزيرًا للعدل، فى نهاية سبعينيات القرن الماضى، كما أصبح حفيده الدكتور عمرو سميح طلعت وزيرًا للاتصالات حاليًا، ولسنا نرى أنور السادات- المناضل فى الشارع السياسى والمطرود من الخدمة فى القوات المسلحة لمواقفه السياسية المعادية للإنجليز- بعيدًا عن هذا الاتجاه، وهو الذى شارك عزيز باشا المصرى فى التخطيط لمحاولة الهبوط بطائرة وراء خطوط الحلفاء للوصول إلى ثعلب الصحراء (روميل)، وإظهار تأييد قطاع كبير من الشعب المصرى للأصدقاء الجدد، والذين يمثلون الحاج محمد هتلر، كما كان يطلق عليه بعض المصريين، ويجب أن نتذكر أن ذلك قد جرى بعد حادث 4 فبراير عام 1942، والذى كان يمثل إهانة بالغة لا للعرش المصرى وحده ولكن لشرعية الحكم وسيادة الدولة، عندما حاول السير مايلز لامبسون (لورد كيلرن) إجبار الملك على الأمر بتشكيل حكومة من الوفد حزب الأغلبية، لا حبًا فى الديمقراطية، ولا تكريمًا لمصطفى النحاس، ولكن رغبة ملحة فى استقرار الأوضاع فى ظل أجواء الحرب العالمية الثانية، وقد أحاط الجنرال (ماكسويل)، قائد القوات البريطانية فى مصر، قصر عابدين بدباباته، لتخويف الملك الشاب وإجباره على أن يمضى مع رغبة بريطانيا العظمى كما كان يفعل معظم آبائه وأجداده، ويومها انبرى أحمد ماهر باشا قائلًا لزعيم الوفد النحاس باشا، وكان ماهر قد انشق عليه حتى بادره أمام الجميع: «إنك جئت إلى الحكم يا باشا على مدافع دبابات سلطة الاحتلال»، ويومها تحرك الثعلب الكامن فى أروقة القصر أحمد حسنين باشا، ساعيًا لتوسيع الهوة بين الملك والإنجليز، ومعمقًا للكراهية المتبادلة معهم، ولقد جرى فى تلك الظروف اعتقال على ماهر باشا وحبسه فى استراحة (السرو) رغم معاناته الشديدة من آلام مبرحة فى الأسنان، ولكنه قضى المدة ولم يطلق سراحه إلا بانتهاء فترة حكومة الوفد حينذاك، ويهمنى هنا إبراز دور عبدالوهاب باشا طلعت، الذى كانت لديه الشجاعة لكى يصدر كتابًا ينتقد فيه بملاحظات محددة ودقيقة خطاب العرش، كما ورد فى مضبطة مجلس الشيوخ فى جلسة 19 يناير عام 1948، والتى حصلت عليها من الأستاذ محمد سميح طلعت، المحامى الدولى المعروف، وشقيق وزير الاتصالات الحالى، كما أن الجدل الذى جرى بين عبدالوهاب طلعت باشا وعبدالرزاق السنهورى باشا- وزير المعارف العمومية حينذاك- حول المصدر الثالث فى التشريع، وهو القوانين الأجنبية الحديثة، وملاحظات طلعت باشا الذكية واحتدام النقاش بينه وبين السنهورى باشا، ما يشير إلى مساحة الديمقراطية فى العهد الليبرالى من 1922 إلى 1952.. فما أكثر الصفحات المطوية التى يمكن كتابتها بحروف ذهبية لتاريخ الحركة الوطنية المصرية!.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2084812