في تاريخ البشر سنوات تتصف بأنها سنوات يسر ورضا، وسنوات أخرى تتسم بالصعوبة على نحو يعاني منه الأغلب الأعم من الناس، ولعل السنة التي نقترب من نهايتها وهي عام 2020 هي واحدة من تلك السنوات التي حملت معها شرورًا ومتاعب للبشرية جمعاء وبغير استثناء وكأنما خضنا حربًا عالمية بغير سلاح ودفع الجميع ثمنًا غاليًا من حريتهم وراحتهم، ثمنًا لذلك الوباء الذي اجتاح البشرية بعد أن كنا قد نسينا عصور الأوبئة، فمنذ قرن مضى واجهت البشرية وباءً مثيلًا في أعقاب الحرب العالمية الأولى ولأن أجهزة الإعلام لم تكن قد بلغت ما وصلت إليه الآن لذلك كان ما عرفناه منها وعنها لا يتناسب مع الحجم الذي اقتحمت به الكورونا مؤخرًا حياة الأمم والشعوب، ومنذ قرنين أو أكثر برزت كتابات متشائمة حول الحجم الأمثل للسكان محليًا وعالميًا وظهر علماء من أمثال مالتس ودوركايم وغيرهما ممن تحدثوا عن دور الحروب في جانب وانتشار الأوبئة في جانب آخر باعتبارها العوامل المؤثرة في عدد سكان البشرية، بل وقالوا صراحة إن الأوبئة والحروب هي من العلاجات التي تؤدي إلى التوازن قدر الإمكان بين معدلات الميلاد ومعدلات الوفاة على نحو يحفظ درجة من الاستقرار لسكان كوكب الأرض وما يحتاجونه في الحاضر والمستقبل، ولقد تميز عام 2020 بخصائص متباينة لعلنا نجمل أبرزها فيما يلي:
أولًا: إن أخطر ما واجهته المجتمعات في دول العالم المختلف في أزمة وباء الكورونا ليس هو المرض في حد ذاته ولكن المخاوف التي ارتبطت به، والشائعات التي ثارت حوله، والتضارب في نوعية الوباء من حيث بداياته ومسبباته وطريقة انتشاره واحتمال وجود عنصر بشري في تخليقه، فشاعت الروايات وتعددت التفاسير وأصبحنا أمام ركام ضخم من الآراء والتحليلات التي يجتهد فيها من يعرف ومن لا يعرف فكانت حالة الذعر التي عانى منها الناس بغير استثناء تقريبًا.
ثانيًا: لا شك أن تكنولوجيا المعلومات وسرعة وسائل الاتصال قد انعكست هي الأخرى على ما يجري حولنا، فأصبح الإنسان محاصرًا بكم هائل من الأخبار حول ذلك الوباء اللعين الذي تحالفت فيه العوامل الطبيعية والبشرية لتخلق منه فزاعة لا يمكن الاستهانة بها، من هنا ظهرت بوضوح عملية تسييس واسعة حتى أن الانتخابات الأمريكية قد تأثرت به بعد أن سيطر الوباء على كل المباحثات السياسية بين دول العالم المختلفة، ولذلك فإن عام الكورونا بتداعياته وملابساته هو عام سياسي بامتياز، فالولايات المتحدة الأمريكية تتهم الصين والصين تتنصل، بينما هناك شائعات عن مختبرات مشتركة بين دول أوروبية يشرف عليها علماء صينيون وأوروبيون وتضيف الشائعات أن ذلك تم بمتابعة أمريكية وكأن القوى الكبرى قد تحالفت على الإنسانية كلها في هذه الظروف لتقليص عددها وتحديد حجمها والسيطرة على معدلات الأعمار والصفات الوراثية والمكتسبة التي يشترك فيها البشر تحت وطأة ما جرى في ذلك العام الكبيس.
ثالثًا: إن الذين عانوا من وطأة الكورونا عندما زارت أجسادهم يدركون جيدًا أن ذلك الوباء الماكر يصطاد ضحاياه بطريقته الخاصة، فقد يتعرض عدد من الأشخاص لرزاز يحمل ذلك الفيروس فيصاب البعض ولا يصاب البعض الآخر وكأن الفيروس اللعين ينتقي ضحاياه ثم هو بعد ذلك يتسرب إلى الجهاز التنفسي في محاولة لخنق مرضاه متأرجحًا بين احتمالات الشفاء الكامل أو الانهيار المفاجئ، كما أنه ضيف ثقيل فرض علينا الكمامات والتقوقع في البنايات ولكنه على الجانب الآخر أحدث نقلة نوعية في كل من التعليم عن بعد والعمل عن بعد أيضًا فدّعم مسيرة التطور بقفزة هائلة لم تكن في الحسبان .
رابعًا: لعل أخطر ما جاءت به ثقافة الكورونا - إذا جاز هذا التعبير - هو أنها قد أعطتنا مفردات جديدة لم تكن مستخدمة من قبل، ومنها الخوف السائد من اللقاحات والأمصال بعد الشائعات القوية التي ترددت عن سوء النية واحتمالات توظيف تلك العلاجات لتحقيق أهداف بعينها وغايات قد لا تتفق مع إرادة المرضى وذويهم، ولقد تحدث الكثيرون عن رغبة كامنة في مواصلة الدراسات والأبحاث طلبًا للعلم في جانب والحرص على التواصل مع الأبحاث الحديثة والدراسات غير التقليدية في جانب آخر.
خامسًا: إن فيروس كورونا وتجربته التي فاجأت معظم دول العالم قد زرعت الشكوك وحفرت هوة عميقة نتيجة فقدان الثقة وأحيت من جديد هذيان فكر المؤامرة ونزعت الشعور الغريزي بالأمان وأوجدت بديلًا عنه تفسيرات لم تكن مطروحة من قبل فيما يتصل بالعلاقة بين الأمم والشعوب بل وبين الأعمار المختلفة داخل المجتمع الواحد، ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل تجاوزه إلى إحساس عام بالعزلة والتقوقع نتيجة توقف الأسفار والحذر من التجمعات في المناسبات والاحتفالات، لقد أصبحنا أمام عالم جديد يفتقر إلى حبال المودة ومظاهر الدفء الإنساني فحتى المصافحة بالأيدي لم يعد لها مكانًا.
إن الوباء الذي جاء به عام 2020 في ذكرى مرور قرن على وباء الإنفلوانزا الأسبانية، جاء لكي يعيد إلى الأذهان مخاوف آبائنا وأجدادنا من عدة قرون عندما كانت الأمراض والأوبئة تحصد الملايين، وأصبح من المتعين علينا الحذر مما هو قادم وتنظيم الحياة بشكل مختلف، بل إن الثقافة ذاتها قد تغيرت لأنها في النهاية نمط في السلوك وتعبير حركي ولغوي أطاحت فيه الكورونا بالجوهر الطيب والنوايا الحسنة.. ألم أقل إن 2020 هو عام صعب ولكننا لا نعرف القادم مع المستقبل المجهول وقديمًا قالوا: (رُبَ يومٍ بَكيتُ منهُ فلما مضى بَكيتُ عليه).
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 24 نوفمبر 2020.