تخشى جماعات الضغط الأمريكية من طغيان سلطة أي رئيس أمريكي خصوصًا في الفترة الثانية لولايته حيث لا يكون محتاجًا لدعم من أي منها كما قد يستأسد بسبب شعوره أنه لا توجد فرصة ثالثة له، وربما كان من أسباب عدم فوز ترامب في الانتخابات الأمريكية الأخيرة ما استشعرته القوى السياسية وجماعات الضغط من مخاطر قراراته في فترة رئاسية ثانية، فلقد عانى كثيرون من مواقفه الحادة وتحولاته المفاجئة في فترة الرئاسة الأولى فما بالنا بفترة رئاسة ثانية تتزايد فيها صلاحياته ويشعر بدرجة أكبر من التفرد في قراراته على نحو يجسد إساءة استخدام السلطة لدى أكبر وأهم منصب في العالم المعاصر، وأظن أن (اللوبي اليهودي) كان أكثر القوى السياسية وجماعات الضغط إدراكًا لهذه الحقيقة حتى أن ما يقرب من 70% من أصوات الأمريكيين اليهود قد جاءت داعمة لبايدن في الانتخابات الرئاسية 2020 رغم كل ما فعله ترامب من انحياز صارخ وفاضح لدولة إسرائيل خصوصًا في موضوعي القدس ومسألة ضم الضفة حتى اعتبرنا إدارته هي إدارة الدعم المطلق للدولة العبرية، وإن كنا نظن أن إدارة بايدن سوف تمضي على نفس الطريق داعمة لإسرائيل مؤيدة لمطالبها، وقد أوضح بايدن صراحة أن أباه قد قال له: (ليس شرطًا لكي تكون صهيونيًا أن تكون يهودي الديانة)، معبرًا بذلك عن صهيونيته كما أن نائبة الرئيس ــ ذات الأصول الهندية ـــ قد تغزلت في إسرائيل وعبرت عن حبها الشديد لها في خطابها الذي ألقته مؤخرًا أمام منظمة يهودية في واشنطن، والذي يعنينا هنا هو أن هناك رؤساء معروفين بخبرتهم في السياسة الخارجية وكفاءتهم المدربة في إدارة شئون البلاد ولكن المواطن الأمريكي حرمهم من فرصة رئاسة ثانية، ونتذكر منهم على سبيل المثال جيمي كارتر وجورج بوش الأب بينما حظي ريجان وكلينتون وجورج دبليو بوش الابن وباراك أوباما بالفوز برئاسة ثانية لم تتحقق في الانتخابات الرئاسية الأخيرة لدونالد ترامب، ولنا على هذه الأمور تعليقات أهمها:
أولًا: إن الولايات المتحدة الأمريكية تتشكل من ولايات تضم مجتمعات مختلفة الأصول والأعراق ولذلك ظهرت فيها كل أسباب الاختلاف والتباين، فهي دولة تقوم على نظرية الضرورة أي أن من صالح كل جماعة أن تظل تحت لواء الدولة الأمريكية الكبرى فكان طبيعيًا أن تثور حقوق الإنسان في مجتمع يعرف التعددية على أوسع نطاق حتى تكاد الولايات المتحدة الأمريكية أن تكون أكبر شركة مساهمة في العالم كله، ولذلك فإن خصوصية الولايات المتحدة الأمريكية تجعلها تتصور ــ باعتبارها أكبر قوة اقتصادية وعسكرية على الأرض ـــ أنها وصية على العالم المعاصر وتستحل لذاتها ما تحرمه على غيرها وتسمح لسياستها الداخلية والخارجية أن تخرق حقوق الإنسان والشرعية الدولية تحت مظلة تقوم على ازدواج المعايير وخلط الحقائق أحيانًا، ولا يختلف اثنان في أن حقوق الإنسان هي قضية العصر ولكن بشرط أن تقوم على أسس من العدالة والتوازن مع أحادية المعايير ووضوح التعريفات، من هنا فإن الولايات المتحدة الأمريكية في ظل إدارة بايدن سوف تمارس قدرًا كبيرًا من الاهتمام بملف حقوق الانسان خصوصًا في بعض المناطق من عالمنا المعاصر وفي مقدمتها الشرق الأوسط.
ثانيًا: برغم كل الشعارات المرفوعة فإن واشنطن سوف تظل الحليف الأقوى والداعم الأكبر لإسرائيل، ولقد كانت تصريحات الرئيس الأمريكي المنتخب وأعضاء إدارته خصوصًا نائبة الرئيس شديدة الوضوح في إبراز أهمية إسرائيل والرغبة في أن تكون دائمًا قوية آمنة متميزة في الشرق الأوسط وغرب آسيا مسيطرة على الأرض والمياه مع يد طولى تمتد في القارة الإفريقية ولتذهب مبادئ حقوق الإنسان إلى الجحيم، فالمصالح تتحدث والأموال تتحكم وعلى القيم المثالية والأفكار الطيبة أن تظل على الجانب الآخر تردد الشعارات وتلوك الماضي وتستنزف قواها في مواجهات عبثية وكأنها تدور في طواحين الهواء، إننا أمام عالم تحكمه قيم جديدة وأفكار مختلفة ولابد من التعامل معها بقدر كبير من الحكمة وضبط النفس والانفتاح على كافة القوى المؤثرة والتيارات المعاصرة.
ثالثًا: إن الملاحظ لدى خبراء العلاقات الدولية والأوضاع الإقليمية أن شهية الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط أصبحت أقل من ذى قبل وأصبحت لا تفكر في إرسال قواتها إلى خارج حدودها إلا وفقًا لمعايير محددة وأسباب قوية وفقًا لشعار أمريكا أولًا وثانيًا، ولذلك فإن واشنطن الآن ليست هي واشنطن جورج دبليو بوش، لقد تغير الزمن واختلفت الخريطة السياسية عما كانت عليه في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي فقد تراجعت أهمية النفط لدى الأمريكيين وحلفائهم كما أن أمن إسرائيل أصبح مكفولًا أكثر من ذي قبل، ولأن هذين العنصرين هما العمودان الرئيسيان في السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط لذلك كان طبيعيًا أن يختلف الوضع وتتبدل الأمور.
رابعًا: إننا نلاحظ على الجانب الآخر أن العرب لم يكونوا منقسمين كما هم الآن فقد سيطرت الروح القطرية على المفاهيم القومية وأصبحنا نشهد غياب التنسيق السياسي وضعف العمل العربي المشترك فضلًا عن الضغوط المكثفة من جانب القوى الكبرى على الأنظمة العربية في استفزاز واضح لاستقرار الشعوب وتماسك الأمة، لذلك فإننا نتوقع أن تطفو على السطح محاولات لابتزاز العرب والمسلمين بشعارات حقوق الإنسان وما يتصل بها، إننا نقول على الجانب الآخر أن علينا كمجتمع عربي السعي الحثيث لإصلاح البيت من الداخل وسد الثغرات بالتوقف عن الخروقات التي تحدث ضد حقوق الإنسان مؤمنين بأن ديننا وقوميتنا لديهما رصيد كبير في الحفاظ على آدمية البشر وضمان سلامة الأقليات واحترام الرأي الآخر ورعاية حقوق الغير.
هذه نظرة سريعة على ملف شائك هو الأولى بالرعاية والأحق بالاهتمام في الظروف التى نمر بها والأوضاع التي نعيش فيها.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 1 ديسمبر 2020.