فرض علي الحظر الاختياري بسبب وباء 2020 أن أقضي فترات طويلة في المنزل وأن أتابع التلفاز الذي لا أشاهده كثيرًا، واتجهت إلى المحطات التليفزيونية التي تعيد برامج الماضي وتجتر ذكريات الزمن الذي رحل وأصبحت أقضي كل ليلة مع إحدى سهرات أم كلثوم في حفلاتها خلال الأربعينات والخمسينات والستينات من القرن الماضي، وقد كان صوتها الذي يشدو والنغم الذي يصدح مثارًا لرفع المعنويات والانتصار على المخاوف الناجمة عن الكورونا اللعينة، وكان أكثر ما شد انتباهي ولفت نظري وطرح عددًا من التساؤلات أمامي هو مظهر الحاضرين من أبناء الطبقة المتوسطة المصرية الذين يحتشدون رجالًا ونساءً بشكل متحضر وملابس لائقة، ولاحظت وجود السيدات السافرات مع أزواجهن يجلسن في احترام ووقار قبل أن يتحول المجتمع المصري مائة وثمانين درجة في أعقاب نكسة عام 1967 وما تلاها بعدة سنوات من اختلاف الأردية وظهور أغطية الرأس للنساء بحيث أصبحنا أمام تغيير يصعب تفسيره إلا بأمر واحد وهو أن المصريين توهموا أن ذلك هو طريق الخلاص من آثار نكسة يونيو وأسبابها، ولا زلت أتذكر وأنا طالب في الجامعة في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي أن زميلاتنا في الكلية كن يرتدين الملابس القصيرة ويتصرفن بحرية كاملة ولم أشهد حادث تحرش واحد طوال سنوات دراستي الجامعية الأربع، بل كنا نجلس على كافيتريا الكلية ومعنا زملاء من كليات أخرى ويسودنا جميعًا روح الوئام والبساطة والمحبة، وبحكم موقعي كرئيس لاتحاد طلاب الكلية لم تصلني شكوى واحدة عن تصرف غير لائق سواء في مبنى الكلية أو على الكافيتريا أو في إستاد الجامعة أو خلال إحدى الرحلات الترفيهية للأسر الجامعية، وهي نفسها مصر التي تذكرتها وأنا أشاهد حفلات (الست) التي يذيعها التلفاز عن تلك الفترة الذهبية من الليبرالية الاجتماعية رغم تراجع الليبرالية السياسية وذلك أمر يطرح التساؤل المشروع ويثير الدهشة، فقد كان للديمقراطية نمط خاص بالعصر الناصري يرتبط بكاريزما القائد وأبوية الزعيم، ورغم غياب المشاركة السياسية الواسعة والاقتصار على تنظيم سياسي واحد في ظل تحالف قوى الشعب العاملة إلا أننا شعرنا بأن رد الفعل الأخلاقي داخل المجتمع كان يبدو سليمًا وصحيًا ومتمشيًا مع روح العصر وتطور الحياة، ولكن الدنيا اختلفت والأمور تبدلت وظهرت تعبيرات جديدة مثل التحرش في أماكن العمل والدراسة بل وفي الشارع خصوصًا في المناسبات والعطلات والأعياد، وذلك معناه أننا أغلقنا أبوابًا ففتحت نوافذ، وأن نظامنا التعليمي قد تراجع، وأن ثقافتنا قد تقهقرت فكان ما شهدناه بعد ذلك منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي حتى الآن، وبالمناسبة فأنا ضد النقاب مائة بالمائة ولكنني لست ضد الحجاب فتلك حرية شخصية في وقت يبدو فيه اللجوء إلى النقاب مراوغة أمنية، كما أن غطاء الرأس للمرأة لم يكن دائمًا لأسباب دينية ولكنه كان تعبيرًا عن الاحتشام لدى الأسر المحافظة ولا بأس من ذلك أيضًا، فإذا كنا نقبل المايوه على الشواطئ فإننا نقبل الحجاب في الشوارع شريطة ألا يكون ذلك معيارًا للأخلاق الحميدة وأن ما عداه رجس من عمل الشيطان، ولعلي أسوق هنا بعض الآراء:
أولًا: هناك من يرى أن المؤسسة الدينية ورجال الدين خارجها لم يبذلوا جهدًا حقيقيًا في خدمة صحيح الإسلام ووسطية الدعوة رغم اعترافنا بما قدمه الأزهر الشريف عبر القرون إلا أن المقارنة بين ما يقدمه في جانب وبين حركة المجتمع ومسار التاريخ في جانب آخر لا يبدو متكافئًا خصوصًا وأن الإسلام يتعرض لسهام مسمومة من اتجاهات مختلفة تحاول ربط ذلك الدين بالماضي وحده وعزله عن الحاضر والمستقبل وتصويره على أنه لا يواكب التطور وأنه أصبح عصيًا على التجديد وذلك بالطبع افتراء واضح، فالإسلام جعل التفكير فريضة وأعلى قيمة العقل وأقر أن ما تجمع عليه الأمة هو الحق لذلك فإن إلقاء المسئولية على الدين الإسلامي هو ظلم وعبث ولكن قد تقع المسئولية على قلة من رجاله داخل المؤسسة الدينية الرسمية أو أكثرية خارجها، فقد تعرض الإسلام في السنوات الأخيرة لهجمة شرسة من فتاوى يطلقها من هم غير مؤهلين لها فضلًا عن تفسيرات مغلوطة لمبادئ ذلك الدين العظيم على نحو سمح باجتراء غير المسلمين على الرسالة المحمدية والتطاول على رسولها الكريم.
ثانيًا: إن تقاليد مصر الاجتماعية تميزت بالثبات عبر القرون في قاطرة منتظمة تشدها الطبقة المتوسطة المصرية، ومرة أخرى أقول إنني عندما أشاهد حفلات أم كلثوم القديمة أشعر بأننا الآن في عالم آخر ودنيا مختلفة، فلم يكن الوقار مرتبطًا بزي معين أو نمط خاص فقد كانت حرية اختيار الملابس مسألة شخصية في إطار الاحتشام التقليدي واحترام قيم المجتمع ولم تكن هناك محاولات لإقحام الدين في هذا الشأن لذلك فإنني أنظر إلى تلك الأيام الخوالي باعتبارها النموذج الحقيقي للشخصية المصرية في القرن العشرين.
ثالثًا: إن الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني لا يجب أن تؤخذ بالحساسية التي ألاحظها لدى بعض كبار علمائنا الأجلاء، فثوابت الدين بدءًا من الكتاب والسنة المطهرة وسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام وتوقير الصحابة هي أمور لا يتعرض لها التجديد ولكنه يسعى فقط لإزالة الشوائب ونفض غبار السنين عن الشريعة السمحاء ووضعها في مكانها اللائق بعيدًا عن التجاوزات والاختلاقات والدعاوي الباطلة، ولذلك فإن مصر الإسلامية تبدو على حق وهي تدعو للتجديد في أساليب الدعوة وأنماط التفسير دون مساس بجوهر العقيدة ولكن في محاولة لتحرير العقل الإسلامي وإطلاقه ليواكب روح العصر بل ويسبقه أحيانًا بفضل الرؤية البعيدة والنظرة الشاملة للشريعة الاسلامية والفقه الصحيح المتفق عليه.
إن جوهر الإسلام ينطق بغير مانراه حاليًا، فهو دين صالح لكل زمان ومكان ولكن حرروا العقول وافتحوا القلوب واحتفوا بالآخر وتعاونوا مع الغير خصوصًا وأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم!
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 8 ديسمبر 2020.