ذات يومٍ بعد تخرُّجنا فى الجامعة مباشرةً عام 1966 كنتُ أنا وزميل لى نزور زميلنا الثالث الذى كان والده ضابطًا رفيع الشأن فى القوات المسلحة المصرية، وسألنا الرجل فى أُبُوَّةٍ: هل حصلتم على شهادات الإعفاء من التجنيد؟ فقلنا: لا، إننا لم نتقدَّم له بعد، فأجرى اتصالاً بزميلٍ هو مدير «الإدارة العامة لتجنيد القاهرة» حينذاك، وقال له: سوف أبعث إليك غدًا بابنى واثنين من زملائه ليحصلوا على شهادات الإعفاء من الخدمة العسكرية، وكان ذلك أمرًا شائعًاقبل نكسة عام 1967.
وبالفعل، ذهبنا نحن الثلاثة لأكتشف أن زميلىَّ الاثنين يتبعان تجنيد «القاهرة»، أما أنا ولأننى من مواليد محافظة «البحيرة» فإننى أتبع منطقة تجنيد «الإسكندرية»، وبالفعل حصل الزميلان فى الحال على شهادتى الإعفاء، وبقيتُ أنا أنتظر الاستدعاء الطبيعى للخدمة العسكرية.
وذات يومٍ جاءنى خطاب الدعوة للالتحاق بالقوات المسلحة من منطقة التجنيد، وذلك من خلال قسم الشرطة الذى أتبعه، وكانت النكسة قد جرت قبلها بأسابيع قليلة، فلم يكن هناك مبرر للتدقيق فى الكشوف الطبية، ولا سبيل لإعفاء أحد، وأتذكر وقتها أن الفريق «محمد فوزى» القائد العام للقوات المسلحة قد قال: كيف أعفى شابًّا من حملة المؤهلات العليا وقائد الجبهة على الطرف الآخر بعين واحدة، فى إشارة إلى الجنرال «موشيه ديان» الذى قاد الجيش الإسرائيلى فى حرب «الأيام الستة»، وترفَّق بنا جهاز الفحوص الطبية فقسَّمنا إلى مجموعات أفضلها صحةً وسلامةً يدفعون بهم ليكونوا ضباطًا احتياطيين، أما الذين يأتون بعدهم صحيًّا وبدنيًّا فيجرى توجيههم كجنود إلى الأسلحة المقاتلة الثلاثة وقتها، وهى المشاة، والمدفعية، والمدرعات، أما ما دون ذلك فيجرى توزيعهم على الأسلحة الفرعية.
وجاء نصيبى أن أكون جنديًّا فى سلاح حرس الحدود بمنطقة الجبل الأصفر، ومكثتُ على ذلك شهورًا أجد صعوبةً بالغةً فى التوافق مع الحياة العسكرية بصرامتها، وخشونتها، وانضباطها، إلى أن قرَّر القائد العام للقوات المسلحة فجأةً توزيع المُجنَّدين من حملة المؤهلات العليا فى الأسلحة الفرعية على الأسلحة المقاتلة الرئيسية، فجرى نقل الجنود من حملة المؤهلات العليا فى سلاح المهمات إلى المدفعية، وزملاؤهم فى سلاح التعيينات إلى المشاة، أما أنا وزملائى ممن جُنِّدوا فى سلاح حرس الحدود فقد تقرَّر نقلنا إلى سلاح المدرعات.
ووجدت نفسى بين يوم وليلة أحمل رتبة «جندى مشاة مدرعات»، وإذا الأمر يزداد صرامةً، وخشونةً، وصعوبةً، وقرَّرت القوات المسلحة بعد عدة أشهرإعادة الكشف الطبى على من هم أدنى فى مقاييس الصلاحية للخدمة العسكرية بدنيًّا وصحيًّا، وجرى توقيع الكشف الطبى الدقيق علينا، وكانت نتيجته أننى مصاب بتسطُّح فى القدمين «فلات فوت»، وبدأت إجراءات إنهاء خدمتى العسكرية التى استغرقت عدة أسابيع التحقت بعدها بدفعتى من الدبلوماسيين فى المعهد التابع لوزارة الخارجية، والذى أصبحت مديرًا له بعد ذلك بربع قرن.
إننى أتذكَّر ذلك كله لكى أقول إن الخدمة العسكرية شرفٌ لمن يؤدِّيها، ووسامٌ على صدر كل مواطن شاب يتقدم لما يسمُّونه دائمًا «خدمة العلم»، أو ضريبةالراية، والتى أصبحت إجبارية فى معظم جيوش العالم؛ نتيجة زيادة المخاطر وانتشار الحروب الموضعية وتفشِّى النزاعات بين أمم الأرض وشعوب الدنيا.
ولقد تعلَّمتُ من تلك الأشهر التى قضيتها فى القوات المسلحة المصرية أن حجم المعاناة التى يتحملها المقاتل، والنمط الخاص للمعيشة التى يتوجَّب عليه الالتزام بها ليست مسألةً سهلةً على الإطلاق، لذلك فإن من عرف الخدمة العسكرية ينظر إلى الضباط والجنود دائمًا بكثير من الاحترام والتوقير مع التعاطف الذى يدركه كل من عرف حياة الجيوش والتزاماتها الصعبة وخصوصية الانخراط فيها، لذلك كان طبيعيًا أن يظل ذلك الجيش العظيم الذى أنشأه محمد على جيشًا مصريًّا صميمًا لم ينقلب على شعبه يومًا، ولم يتقاعس عن الدفاع عن وطنه أبدًا؛ فهو الجيش الذى قاتل فى معركة «رأس العش» بعد أسبوعين فقط من هزيمة يونيو عام 1967، وهو الجيش الذى أغرق «المدمرة إيلات» وعبر أكبر مانع مائى فى التاريخ وهو «قناة السويس» فى يوم العبور المجيد 6 أكتوبر عام 1973.
لقد اكتشفت من خدمتي العسكرية -رغم قصر مدتها- أن الذى يُضحِّى بدمه من أجل وطنه هو أحقُّ الناس احترامًا وتعظيمًا، ولذلك أكرِّر دائمًا: «المجد للشهداء.. المجد للشهداء».
د. مصطفي الفقي;
مجلة 7 أيام العدد 241
تاريخ النشر: 30 اغسطس 2017
رابط المقال: https://www.7-ayam.com/%d9%8a%d9%88%d9%85%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%ae%d8%af%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b3%d9%83%d8%b1%d9%8a%d8%a9/